طفلي جبان ..!!

طفلي جبان ..!!

كيف أبني طفلًا مقدامًا؟ 

خاص موقع "أمان الأطفال"/ د. شوكت أشتي

تعبير "الطفل الجبان" يُثير تساؤلات عديدة حول المفهوم وأبعاده وحدود استخدامه. فإلى أي مدى يمكن أن نعدّ الطفل "جبانًا"؟ وهل الطفل في المراحل العمرية الأولى، يمكن أن يكون "جبانًا"؟ ما هي المعايير التي من خلالها نحكم على هذا "الطفل بالجبن"؟ هل الطفل الخائف، القلق، المتوتر... هو طفل "جبان"؟

نحن أمام معضلة حقيقية، وأمام تحديات تربوية ومجتمعية جمة، تفرض علينا، نحن أهل، إعادة النظر في العديد من المصطلحات. وذلك من أجل تحرير الذاكرة من بعض المصطلحات القاسية التي نُسقطها على أطفالنا قسرًا، ونستسهل إطلاقها على هذا الطفل أو ذاك، في مرحلة عمرية هو بأشدّ الحاجة إلى المزيد من الاهتمام والرعاية والتشجيع والمحبة...

تعبير ذكوري

من الواضح، إن تعبير "الطفل الجبان"، عامة، هو أقرب إلى المصطلح الذكوري، وناتج، مبدئيًا، عن مقارنة أطفالنا بالرجال الذين لهم موقعهم المميز في المجتمع. والكل يعترف لهم بدورهم وتمايزهم في الشجاعة والإقدام. وهذا ما يدفع بعض الأهل، ومنذ مراحل الطفولة الأولى -المرحلة التي قد تمتد إلى عمر الست سنوات- إلى تشجيع الأبناء إلى التماثل مع هؤلاء الرجال الأقوياء، ويرغبون في تنمية صفات الشجاعة وعدم الخوف في شخصية أطفالهم، ليفتخروا بهم، وليتباهوا بقوتهم أمام البيئة التي يعيشون فيها.

إذا كانت هذه الرغبة "مسوّغة" ومطلوبة، فإنها بالمقابل، قد تحمل مخاطر جسيمة. لعل أبرزها ضرب مفهوم الطفولة، بحد ذاته، وحرق المراحل العمرية وإلغاء العديد من الأحاسيس والمشاعر الإنسانية، والتي من المفترض تنميتها وتعزيزها في شخصية الطفل. هذه النظرة، لا تتجاوز فكرة أن بعض الأطفال يعانون اضطرابات ما في الشخصية، ويخشون القيام ببعض الأعمال، ويتهرّبون من المواجهة، ما يجعل فكرة الطفل "الجبان" موجودة. لكن ما هي حدود هذا المفهوم؟ وما هي أسباب هذه الوضعية؟ وكيف يمكن مواجهتها؟....

"الجبان" عندما تكون صفة مؤقتة

مصطلح "الجبان"، عامة، يُطلق في مجتمعنا، على الشخص الذكر أكثر، من الأنثى. هو الشخص غير القادر على الإقدام، والقيام بما ينبغي القيام به. أي بتعبير آخر، هو "الخائف"، وغير الشجاع.... لذلك نقول، إنه "خائف"، يشعر بنوع من الاضطراب والتوتر، خشية أن يصيبه أي مكروه. فشخصيته ضعيفة، وقدراته ركيكة، وأوهامه معيقة، وأفكاره مشوشة. لذلك يرى "علم النفس"، الخوف سلوكًا يتميز بصبغة انفعالية غير سارة، تصحبه ردود فعل حركية مختلفة، نتيجة توقع مكروه أو ضرر ما.

إذا كان الخوف مظهر من مظاهر "الجبن"، أو يتداخل معه، غير أن الخوف، من حيث المبدأ، حالٌ طبيعية. كونه اضطرابًا يعمل قبل البدء بعمل ما، أو بعده. ومثال على ذلك، الشعور الذي قد يتعرض له الأطفال قبل إجراء الأمتحان، أو عند انتظار النتيجة، ثم تعود الأمور إلى طبيعتها. لكن "الجبن" أكثر حدة وديمومة، كونه في الأساس اضطراب يولّد عدم المقدرة على المواجهة، الأمر الذي يجعله أكثر خطورة على الطفل ومجريات حياته.

من هنا نلاحظ عادة، إن صفة الجبان مقرونة بالخوف والخشية والقلق والتوتر... الذي يُهيمن على الشخص، فيشل قدراته، ويمنعه من الإقدام والحركة والعمل بشكل طبيعي في المواقف والعلاقات.

 وعليه، إذا لاحظنا هذه العوارض على طفل من أطفالنا نعدّه "جبانًا". وعندها تقع الطامة الكبرى، ونبدأ بإطلاق الصفات والنعوت السلبية وتقديم النصائح وتوجيه التعليمات والإرشادات بأسلوب فج أحيانًا، والضغط على هذا الطفل أمام الأخوة أو الأصدقاء أو الأقارب لنحوّله إلى طفل "شجاع"، ونزيل شعوره بالخوف، ونخلصه من هذه الصفة المعيبة والمخجلة، ليكون كما نرغب.... لكن هل نسأل: لماذا هذا الطفل على ما هو عليه؟

أسباب موجبة

الطفل "الجبان" هو نتيجة تربوية؛ لماذا؟ - بعيدًا عن الجينات الوراثية- لأنّ وصول الطفل إلى هذه الوضعية "غير السوية"، ترتبط أساسًا، بالأهل أنفسهم، والبيئة المحيطة والمدرسة. وهذا ما يمكن توضيحه باختصار شديد، على النحو الآتي:

1.    دور الأهل: العملية التربوية في الأسرة، بما تتضمنه من علاقات وأنماط سلوك وكلام وحركات الجسد....، سواء بين الوالدين أو بين الوالدين والأبناء أو بين الأبناء أنفسهم بطابعها "الإيجابي" المبالغ فيه، أو بمظاهرها السلبية الفجة، لها مفاعيلها المباشرة في تشكيل شخصية الطفل وبلورتها. فالمحبة "المتضخمة" والحرص المبالغ فيه وشدة الاهتمام، والحماية الزائدة من الأهل تجاه الأبنا، تُلغي، بشكل أو بآخر شخصية الطفل، وتُقيده، وتضعه في اضطراب دائم، وتجعله عاجزًا عن المبادرة والاعتماد على نفسه، وتحد من قدراته في التعامل مع متطلبات الحياة اليومية. 
2.    علاقات الوالدين: إن نوعية العلاقات بين الأم والأب، تنعكس مباشرة، على تكوين شخصية الأطفال. لذلك؛ التوتر بينهما وكثرة النزاع والعنف الكلامي أو الجسدي تولّد عند الأبناء، في مراحل الطفولة الأولى، توترًا دائمًا وخشية من القادم وقلقًا في التعبير، ورهبة من التواصل والحوار، وإنكفاء عن المواجهة.....، ما يحوّل هذه الوضعية، غير السوية في العلاقات الأسرية، إلى "جبن" واضح في السلوك والمواقف والتفاعل والقيام بما هو مطلوب...
3.     البيئة المدرسية: لها دور أساس في تكوين شخصية الطفل، كونها متممة لمسار العملية التربوية في الأسرة ومكملة لها، في التشكيل والتكوين وتحقيق النمو الطبيعي. وبالرغم من تطور المؤسسة المدرسية في بلادنا، لكن يسود في بعضها، بعض المظاهر السلبية- غير مقصودة بالضرورة- لجهة كثرة التهديد بالعقاب والتهويل من الامتحانات، والتخويف من النتائج غير المُرضية، وتقليدية أساليب التعليم، وطرائق توصيل المعرفة، ونوعية الرقابة، وتحويل الصف إلى "سجن"، والملعب إلى ساحة من دون ضوابط، وتهميش شخصية المتعلّم.....، ما يُنمي الخوف، ويزيد التوتر، ويشل التفكير... هذا كله يترك تداعياته السلبية على المتعلّمين، ويجعل كل منهم، وإن بنسب متفاوتة، يشعر بالعجز عند المواجهة، ويمتلكه الخوف عند إتخاذ المواقف، ويهيمن عليه التوجس عند التواصل، ويسيطر عليه التردد عند القيام بما هو مطلوب...... وهذه كلها تنمي "الجبن"، وتساعد على تكوين الطفل "الجبان".
آفاق ممكنة
1.    إنّ المدخل للتعامل مع هكذا وضعية، تنطلق عمليًا من الأسرة والبيئة الحاضنة بالدرجة الأولى؛ لأن شخصية الطفل تبدأ في النمو والتشكل والتكوين، في هذا الإطار المجتمعي الحاضن.
2.    طبيعة الضغوطات الحياتية والمعيشية التي نعيشها جميعًا في هذه الأوقات، لا تُسوّغ أو لا تُلغي عند الأهل الانتباه إلى وضعية الطفل "الجبان"، والعمل على معالجته..
3.    توسيع أجواء المحبة والتفاعل داخل الأسرة، وفسح المجال لمزيد من المرونة والحوار الهادى والانفتاح، وعدم "تضخيم" الأمور، أو التهويل بها،.... تفتح أفاقًا إيجابية، وتنمي شخصية سويّة عند أطفالنا. ووهذا يترافق مع الابتعاد عن أساليب العقاب والعنف والإكراه.
أخيرًا؛ من المهم جدًا، عدم إجراء المقارنة بين الطفل الذي نراه "جبانًا"مع  أطفال آخرين، وعدم تعظيم الآخرين على حساب مشاعر هذا الطفل وأحاسيسه؛ فمثل هذه المقارنة ستكون تداعياتها مؤلمة وقاسية؛ وتجعل الطفل يشعر بالدونية... وهذا يدفع للتساؤل، لماذا لا نُشير إلى الإيجابيات التي يختزنها طفلنا، وننوه بها، ونؤشر عليها، أمامه وأمام الآخرين؟

معالجة الطفل "الجبان" مسألة مُعقدة، والأهل، أولاً وأخيرًا، هم الأقدر على إيجادها أو تهميشها. والطريق الذي نعتمده، نحن الأهل، يُحدد "النهاية" التي نريدها لأبنائنا.