مع العالم الرقمي وتحديّاته.. كيف نبني علاقة متوازنة مع أبنائنا؟

لا نستطيع منعهم عن العالم الرقمي ولكن نستطيع الإبقاء على الحوار والتواصل معهم

 

خاص موقع "أمان الأطفال"/ د. شوكت أشتي

الحديث عن "العالم الرقمي" وتأثيراته على مسار حياتنا اليومية اتّسع كثيرًا في هذه المدة الأخيرة. أولاً، لأن انتشار أجهزة هذا العالم غدت في متناول الجميع، صغيرًا وكبيرًا. ثانيًا، لأن امتلاك هذه الأجهزة أصبح مُتاحًا وسهلاً، ولا يحتاج، من حيث المبدأ، إلى الكثير من المال. ثالثًا، لأن مستلزمات الحياة اليومية، ارتبطت بشكل أو بآخر إرتباطا قويًا ومتينًا بهذا "العالم" وأجهزته....

لذلك؛ أصبح النقاش يتركز أكثر في تأثير "العالم الرقمي" وأجهزته، وما تتضمنه من "رسائل"، وما تحمله من مضامين على مختلف جوانب "الحياة اليومية"، وليس على كيفية الوصول إلى هذه الأجهزة، أو على وجودها، أو على أهميتها... هذا الأمر الذي جعل "العالم الرقمي"، بكل تجلياته، تحديًا حياتيًا، يكاد يواجه البشر كافة، ويقض مضاجع الأهل لمعرفة كيفية التعامل مع إرتداداته على الأبناء، والعلاقة معهم.

 

الفجوة قائمة ..واتسعت

من المسائل البديهية، والمعروفة جيدً،ا إنّ التباين بين جيل الأهل والأبناء قائم، وموجود، قبل "العالم الرقمي". ذلك لأن اهتمامات الأبناء عامة، والمراهقين خاصة، تختلف في العديد من القضايا عن اهتمامات الأهل. لهذا نعرف ما يمكن تسميته بـ"أزمة" مرحلة المراهقة، حيث الأبناء أكثر ميلاً للاستقلال، وأكثر انجذابًا للجديد والتجديد، وأكثر رغبة في التمرد على التقليد والسائد، وأكثر تصميمًا على بناء عالمهم الخاص، بما يتضمنه من حرية وخصوصية 

....وعليه، هل أسهمت أجهزة "العالم الرقمي" في تعميق هذه الفجوة وتوسيعها؟ أم عملت على ردمها والحد من اتّساعها؟

من الملاحظ أن الآفاق التي فتحها "العالم الرقمي" والمعطيات التي وفرّها أسهمت، بشكل أو بآخر، في توسيع مساحات التباعد بين الأهل وأبنائهم المراهقين. وتبدو هذه المسالة بديهية، وإلى حد كبير؛ لأن هذا العالم وفّر للمراهقين الولوج إلى عوالم غير معهودة بالنسبة إلى الأهل، وسّهل الحصول على معلومات "غنّية" لا يوفرها الأهل، وأمن الإطلاع على ثقافات متنوعة ومتعددة قد لا تكون في متناول الأهل، وأدخلهم في لحظوية الحدث، وتطوراته، لحظة بلحظة.. فكبسة زر على الشاشة الصغيرة، وكأنها "المارد" الذي خرج من "القمقم"، مناديًا "سيده" "شبيّك لبيّك، عبدك بين إيديك"، فهو القادر على استحضار كل ما يريده المراهق، بلمحة البصر ومن دون حسيب أو رقيب. 

لذلك من الأفضل البحث في كيفية ترشيد هذه العلاقة وتنظيمها، إلى الحد الذي يحافظ على أبنائنا المراهقين من جهة، ويُبقي التواصل قائما معهم من جهة ثانية، ويُبقيهم على تواصل مع التطور وآفاقه الرحبة من جهة ثالثة.

مستلزمات البداية 

بعيدًا عن النصائح والإرشادات التي يتعامل معها بعض الأهالي على أنّها "وصفات" طبية، شافية، كافية، لإزالة الاختلال وتصحيح الوضع؛ علينا السعي الجدي لتقليص مساحات التباعد بيننا وبين أبنائنا المراهقين والتخفيف من عمق الهوة القائمة بيننا، الأمر الذي يُسهم في التقليل من التداعيات السلبية الناتجة عن قوة علاقة المراهقين بـ"العالم الرقمي"، والتي تصل في الكثير من الحالات إلى نوع من الإدمان "الخطير" والمؤذي. 

هذا التوجه يتطلب وقتًا وصبرًا ومرونة والكثير الكثير من المعاناة... فالمسؤولية تقع على عاتق الأهل (الأمهات والأباء)، والمبادرة ترتبط بهم أولاً وأخيرًا، إن لم تكن محصورة بهما فقط، كون هذه المسألة/الأزمة مجتمعية بإمتياز، وغير مقتصرة في أسرة معينة، أو مجموعة من الأسر. من هنا يمكن التفكير ببعض المنطلقات الأولية، التي يمكنها أن تسهم في الحد من هذه الأزمة.

منطلقات تأسيسية

1.    قد تكون نقطة الإنطلاق أولاً، عدم إلقاء اللوم على "العالم الرقمي"، فلكل إختراع جوانبه الإيجابية والسلبية. والعلم أمام موجات جديدة، وغير مسبوقة في مسارات التطور التقني والإلكتروني، ما يجعل الدعوة لقطع الصلة مع هذا "العالم"، خروجًا تامًا من التاريخ، وتنكرًا للواقع وتحولاته. إذ من المفيد الانتباه إلى دوره "التطويري"، لما يفتحه من آفاق جديدة يوفرها للأطفال، في مراحلهم العمرية المختلفة، من إمكانات للتعلم وإكتساب المعارف وتنمية القدرات والمهارات.....
2.    ثانيًا، ثقة الأهل بالأبناء المراهقين، من دون تصنع أو مجاملات؛ وعدم قيام الأهل بدور التحري، للاستقصاء؛ فالمصارحة بينهم هي الأساس الذي يمكن البناء عليه.
3.    ثالثًا، تأمين قنوات التواصل والحوار معهم، ليس فقط في المسائل المباشرة التي تهمهم، بل في مختلف القضايا؛ لأن هذه الخطوة تُعزّز حضور المراهقين، وتُشعرهم بأنهم مشاركون، ولرأيهم أهمية.

 

التحديات القائمة

هذه المنطلقات الأولية، وغيرها العديد، ليست بالأمر السهل واليسير، كما يتصور البعض؛ لأنها ليست عملاً آليًّا، ميكاميكيًّا، روتينًا... ما يجعلها أمام بعض التحديات، لعل من أبرزها، بإختصار، الآتي:

1.    وعي مرحلة المراهقة، وخصائصها. لماذا؟ لأنه ما يزال يسود في المجتمع بعض الأفكار غير الموضوعية عن حول الطفولة، بشكل عام، ومرحلة المراهقة بشكل خاص، سواء لجهة النظرة، أو لجهة طريقة التعامل، أو لجهة مستوى إدراك الأبناء المراهقين ووعيهم.... ويبدو أن مشاعر المحبة التي نحملها للأبناء، تجعل البعض يُغالي في التعبير عن هذه المحية، بطريقة قد تتجاوز الأبناء، وتُهمش شخصيتهم، وتتجاهل خصوصيتهم، وتخاف، أو ترفض الحرية الممنوحة لهم، الأمر الذي يؤدي، بطريقة، أو بأخرى، إلى إهتزاز العلاقة بين الأهل والأبناء، ويجعل "العالم الرقمي" الملجأ الذي يحتمون به، ويهربون إليه.

2.    الأوضاع التي نعيشها تزداد صعوبة في ظل الظروف غير الطبيعية التي تعيشها الأسر والعائلات في لبنان، على الصُعد كافة، الاقتصادية، والمعيشية، والصحية، والاجتماعية، والسياسية،....، ما يجعل الأهل غير قادرين على الالتزام، بالشكل المطلوب، بالكثير من الأمور، بل إن العديد من الأهل، وتحت وطأة المعاناة التي يعيشونها، جعلهم مقصرين في تلبية العديد من الحاجات من جهة، ويعيشون في أجواء مضغوطة تحول دون تأمين تواصل إيجابي وطبيعي من جهة ثانية، وغير قادرين على تأمين العديد من المتطلبات التي كانت بالنسبة إليهم تقليدية، مثل النشاطات، الرحلات، الزيارات، السهرات....

وعليه، يمكن القول: إن طبيعة العلاقة بين الأهل والأبناء المراهقين، هي المدخل، من حيث المبدأ، لمعالجة الآثار السلبية التي يتركها "العالم الرقمي"، وأجهزته على اختلافها، وفي مقدمتها تخفيف حدة التباعد بينهم، أو "تجفيف" الفجوة التي فرضها هذا العالم.