في اللحظات الهادئة التي تسبق النوم، حين تخفت الأضواء ويهدأ صخب اليوم، يتكوّن واحد من أكثر الطقوس دفئا بين الأهل وأطفالهم: قراءة قصة ما قبل النوم. وعلى الرغم من بساطة هذه العادة، فإن أثرها يتجاوز مجرد تهدئة الطفل ومساعدته على الاسترخاء. إذ تشير دراسات حديثة إلى أن هذه الدقائق القليلة تخلق تفاعلا عميقا يصل إلى تناغم إيقاعي بين دماغ الطفل ودماغ والديه، ما يعزز الارتباط العاطفي، ويدعم النمو اللغوي والمعرفي، ويحوّل القصة إلى جسر حي يربط بين المشاعر والتعلّم في آن واحد.
عندما تتحدث الأدمغة لغة واحدة
يرى البروفيسور سام واس، عالم الأعصاب ومدير معهد علوم الطفولة المبكرة والشباب في جامعة شرق لندن، أن لحظة قراءة الأم قصة لطفلها قبل النوم تحمل أبعادا علمية استثنائية. فبحسب دراساته حول التزامن العصبي بين الأطفال وذويهم، توصّل واس وفريقه إلى أنه مع تدفّق صوت الأم بالكلمات والجمل، تبدأ الإشارات الكهربائية في دماغ الطفل بالانسجام تدريجيا مع نظيرتها في دماغ الأم. ولا يقتصر هذا التزامن على النشاط الدماغي فحسب، بل يمتد ليشمل أنماط التنفس ومعدل ضربات القلب، ما يخلق حالة من الانسجام الفسيولوجي الكامل بين الطرفين.
في حديثه لصحيفة "ذا صنداي تايمز" البريطانية، شدّد واس على أهمية القراءة في دعم نمو أدمغة الأطفال، موضحا أن أدمغة الرضع بطبيعتها غير منتظمة وإيقاعاتها العصبية متقلبة. وقال "القراءة تمنح هذا النشاط قدرا من الانتظام وإمكانية التنبؤ، سواء على المستوى اللغوي الدقيق، أو لأن الطفل يبدأ في توقع ما سيأتي لاحقا". وأضاف أن الالتزام بقراءة القصة في التوقيت نفسه يوميا، خاصة قبل النوم، يساعد على جعل إيقاعات دماغ الطفل أكثر استقرارا وأقرب إلى إيقاعات أدمغة البالغين.
يؤكد واس، الذي أجرى ونشر عددا من الدراسات المتخصصة في هذا المجال، أن هذا التناغم العصبي يسهم في انتقال دماغ الطفل من حالة الفوضى والتشتت، التي تميّز النشاط العقلي في المراحل المبكرة، إلى حالة أكثر تنظيما تشبه ما يحدث لدى البالغين. ولا يقتصر هذا الأثر على كونه مؤقتا، بل يساعد في تدريب دماغ الطفل على التنظيم الذاتي وتعزيز القدرة على التركيز، وهما من الركائز الأساسية للنمو المعرفي والعاطفي السليم.
بيئة لغوية منظمة: أكثر من مجرد كلمات
توفر القراءة بصوت عالٍ للطفل بيئة لغوية غنية أفضل من الكلام اليومي أو المحتوى على الشاشات، لأنها تحتوي على بداية ووسط ونهاية، وشخصيات وأحداث مترابطة.
هذا الإيقاع المنتظم يساعد دماغ الطفل على فهم اللغة، توقع الأحداث، وفهم القصة بسهولة. وقد أظهرت دراسة أجريت عام 2018 بواسطة باحثين في جامعة سانت جوزيف في فيلادلفيا بالتعاون مع مركز النوم في مستشفى أطفال فيلادلفيا، ونشرت في مجلة مراجعة طب النوم أن القراءة المتكررة للقصص تزيد قدرة الطفل على التعرف على أصوات الكلمات، توسع مفرداته، وتحسن فهمه للغة بشكل طبيعي وسلس.
التفاعل المباشر.. لماذا الشاشات لا تكفي؟
رغم أن العصر الرقمي يتيح كما هائلا من القصص الموجّهة للأطفال، فإن الشاشات لا توفّر التجربة ذاتها التي تخلقها القراءة المشتركة. فالمحتوى الرقمي غالبا ما يُقدَّم بإيقاع سريع ومن دون تفاعل مباشر بين الطفل ومن يروي القصة، في حين تتيح القراءة التقليدية مساحة للتوقف والعودة إلى الصفحات السابقة، والإشارة إلى الصور، وطرح الأسئلة، والتعليق على مجريات الأحداث.
يحوّل هذا التفاعل الثنائي القصة من سرد أحادي الاتجاه إلى حوار حي يشارك فيه الطفل بفاعلية. فعندما يسأل الوالد مثلا: "ماذا تتوقع أن يحدث الآن؟" أو "كيف تشعر الشخصية في هذا الموقف؟"، لا يقتصر الأثر على تعزيز فهم القصة فحسب، بل يمتد إلى تنمية مهارات التفكير النقدي، وتعزيز التعاطف، ومساعدة الطفل على التعبير عن مشاعره بصورة أعمق.
روتين يطور الطفل ويشعره بالأمان
يمنح الالتزام بروتين يومي لقراءة القصص قبل النوم الطفل شعورا بالثبات والأمان، وهو عامل بالغ الأهمية، لا سيما للأطفال الذين يعيشون في بيئات غير مستقرة. فقد أظهرت مراجعة شاملة لعدد من الدراسات، أجرتها جامعة وايلي الأميركية عام 2023، أن الروتين اليومي يرتبط بنتائج إيجابية في نمو الأطفال، تشمل الجوانب المعرفية، والتنظيم الذاتي، والمهارات الاجتماعية والعاطفية، والقدرات الأكاديمية، إضافة إلى الصحة النفسية والجسدية.
عندما يُرسَّخ روتين ثابت للقراءة، يبدأ الطفل في إدراك أن ليومه نهاية متوقعة، ما يعزز شعوره بالسيطرة على محيطه ويخفف من مستويات القلق. كما يسهم السرد القصصي المنتظم في تنمية مهارات الاستماع المركّز، وضبط الانفعالات، وفهم العلاقات الاجتماعية، وهي مهارات تمتد آثارها لاحقا إلى تفاعلات الطفل الواقعية مع الآخرين.
في السياق ذاته، كشفت دراسة حديثة أُجريت عام 2025 في جامعة السلطان إدريس للتربية في ماليزيا، ونُشرت في المجلة الدولية للتربية والعلوم الإنسانية، أن القراءة المشتركة بين الوالدين والأطفال تلعب دورا مهما في تعزيز التطور اللغوي والمعرفي والاجتماعي. كما تسهم في تنمية تنظيم الانفعالات، والمرونة المعرفية، والتحفيز الذاتي.
أشارت الدراسة إلى أن هذا النوع من التفاعل يعزز أيضا مهارات التواصل غير اللفظي، مثل تعابير الوجه ونبرة الصوت، ما يدعم الذكاء الاجتماعي وفهم العلاقات وبناء الثقة بالنفس، ويعزز التطور العاطفي المستدام لدى الطفل.
توصيات عملية للآباء والأمهات
لتحقيق أقصى فائدة من طقس قراءة القصص قبل النوم، ينصح المتخصصون بالالتزام ببعض الإرشادات البسيطة التي تعزز أثر هذه العادة الإيجابي.
أولا، يُفضل جعل القراءة جزءا ثابتا من روتين ما قبل النوم، إذ يساعد الانتظام على تهدئة الطفل تدريجيا، ويهيئ نشاطه العصبي للاسترخاء والاستعداد للنوم. كما يُنصح بالحد من الاعتماد على الشاشات في هذا الوقت، لأن التفاعل الصوتي والحركي المباشر أثناء القراءة يكون أكثر فاعلية في تنشيط الدماغ وتنمية اللغة مقارنة بالمشاهدة السلبية للمحتوى الرقمي.
لا ينبغي القلق من تكرار القصة نفسها إذا أبدى الطفل تعلقه بها، فالتكرار بالنسبة له ليس مدعاة للملل، بل وسيلة للتعلّم وتعميق الفهم، كما يعزز شعوره بالألفة والسيطرة على ما يحيط به. كذلك، يُستحسن تحويل القراءة إلى تجربة تفاعلية قدر الإمكان، من خلال طرح أسئلة بسيطة، وتشجيع الطفل على توقّع الأحداث، والتعبير عن رأيه في تصرفات الشخصيات، أو الإشارة إلى الصور وتسميتها، ما يحوّل القصة إلى تجربة تعليمية متكاملة.
في النهاية، يبقى العامل الأهم هو الدفء العاطفي المصاحب لهذه اللحظة. فحتى إن لم تكن القراءة مثالية، أو كان الصوت مرهقا، أو القصة بسيطة، فإن وجود الوالد أو الوالدة إلى جانب الطفل في هذا الوقت الحميم هو الأثر الأعمق والأبقى.
رغم بساطة قراءة قصة قبل النوم، تؤكد الأبحاث أن هذه الدقائق القليلة كل ليلة تمثل استثمارا حقيقيا في النمو المعرفي والعاطفي والاجتماعي للطفل، إذ تسهم في بناء رابط عصبي وعاطفي قوي بين الطفل ووالديه، وتنمي لغته وخياله وقدرته على التركيز، وتمنحه شعورا بالأمان والانتماء يصعب تعويضه.
المصدر: الجزيرة
"ولكن ماذا سأقول لأصدقائي في الصف؟"
"ولكن ماذا سأقول لأصدقائي في الصف؟"

2025 © جميع الحقوق محفوظة لموقع أمان الأطفال