لي بَدَلَ البَيْتِ بَيْتانِ.. أدب القصة عندما يعالج الروح المتألمة

لي بَدَلَ البَيْتِ بَيْتانِ.. أدب القصة عندما يعالج الروح المتألمة

 "ولكن ماذا سأقول لأصدقائي في الصف؟"

 

آيات عبد المنعم/ متخصصة تربوية.

عيناك تتفحص قصصًا للأطفال، وأنتَ تتجول في معرض الكتاب، فلا بُدَّ وأن تستوقفك قصة بعنوان «لي بَدَلَ البَيْتِ بَيْتانِ». وإذا كنت مهتمًا بالشأن التربوي أو أبًا أو أمًا يبحث لطفله عن قصة مفيدة، فلن تفكر مرتين في اقتناء قصة تطرح موضوع الطلاق على عقول الصغار، تقتحم تلك الخطوط الحمراء بجدارة، وتتجاوز تلك القصص الوعظيّة التي تقتصر حديثها مع الأطفال علىٰ "أفعل أو لا تفعل"، أو الكتب الخياليّة التي تُغذِّي خيالهم برؤى غير واقعية.

حاولت هذه القصة، في أربعٍ وعشرين صفحة، أن تقترب من بيتِ طفلٍ يُعاني ضجيج شجار أبويه وصخبه، تدقُ عليه الباب بلطفٍ عبر بطل القصة الذي يحملُ اسمَ "آدم". وكأنَّ هذا الاسم، بمدلولهِ وعدد حروفه الثلاثة، يحملُ ذاك الوجع والألم الإنساني، حين يسودُ الصراخ كلغةٍ مُرَّة بين الزوجين، بدلًا من الحديث الدافئ الودود.

تميزت الكاتبة "لوركا سبيتي" باحترامها لمشاعر الطفل، وكأنَّ دواة الحبرِ نفذتْ في شريان "آدم"، وشعرتْ بصقيعِ الخوف الذي لامسَ قلبه، وأصغتْ إلى خفقاتِ نبضهِ، وهو يقول: 

«أجلسُ على السريرِ، أخافُ من الصوتِ العالي، أشعرُ بقلبي يدقُّ بسرعة، أضعُ رأسي تحتَ المِخدَّة، حتّى لا أسمعَ الصُّراخ.» 

لم تختبأ الكاتبة خلف العِبارات المواربة، أو تخفف من وطأة المشهد، بل عبَّرت عن الواقع كما هو. كانت صادقة مع الطفل، وهذا ما يحتاجه الصغير، أن نحترم مشاعرهُ ونُصدقها، تمامًا كاحتياجنا نحن الكبار حين نشعرُ بالألم. الفارق أنَّ الطفل ليس لديهِ الخبرات ليفسر مشاعرهُ، وينظمها، فيحتاج إلى مساعدتنا في فهمها، والخروج من تلك المشاعر السلبيّة إلىٰ بر الأمان.

هذه القصة تحاول فعل ذلك، فهي بمثابة زورق للطفل الذي يُعاني بسبب انفصال والديه. كلماتها؛ وهي تخاطبه بلسان "آدم"، كانت كمجدافين يشقان الأمواج، ويعبران به إلى مساحة آمنة يستطيع فيها أن يُبصِرَ النُّور في العتمة، وأنَّ الطلاق يكون بين الزوجين لا الأبوين. كما ورد في القصة:

«وهل ستأتيان إلى حفلة المدرسة معًا؟»
تُجيب ماما: «طبعًا طبعًا كالمعتاد، وسنأخذُ صورًا لك وأنت ترقص وتغني على المسرح وسنصفِّقُ لك فرحين».

يتصاعد عصف الطفل الذهني على مدار القصة من لحظة الانهيار، مرورًا بدوامة الصراعات إلى ذروة الانعتاق من كل ما فات، ليخرُجَ "آدم" من تلك الشرنقة بجناحيِّ فراشةٍ مُلونين، يحومُ حولَ بيتين منفصلين، لكنَّهُ يعي أنَّه ما يزال يقف على أرضِ حُبٍّ صلبة، يعيشُ مطمئنًا في ظلِّ قلبِ أبويه اللذين يحترمان بعضهما البعض، ويقدرُ كلٌّ منهما الآخر.

 

القصة والجائزة

في البداية؛ لا نستطيع أن نغفل رسم الفنانة "منى يقظان"، فقد أبدعت في رسومها الفنيّة التي رافقت كلمات القصة، وأدت دورًا محوريًا في سرد القصة ومداعبة خيال الطفل ومشاعره الذي يقرأ، وأَثْرَتْ الذائقة الفنيّة لديه. كانت مُوفقة للغاية في انتقاء الألوان الثلاثة التي سيطرت على القصة: الرمادي الداكن، الأحمر، الأبيض. وحاكت من خلالها مشاعر "آدم" بطل القصة. لذلك؛ بكلِّ موضوعية، اللوحات الفنيّة تُشاطر الكلمات في دور البطولة. حتى إنَّ الكاتبة "لوركا سبيتي"، في أثناء لقاء ثقافيّ ناقش القصة، اِرتدت زيًّا يحملُ صورة أحد أبطال المرسومة في القصة. راق لي كثيرا هذا التماهي بين اللون والحرف في مخاطبة روح الطفل. كلذك؛ كان لدور "دار الساقي" وإشرافها العام والتفصيلي أثر مهم في إخراج القصة بأجمل حُلّة، لتفوز في النهاية بجائزة اتصالات لكتاب الطفل، في العام 2017 في الشارقة، وسط منافسة قوية بين 150 قصة مُرشحة. 

 "لي بَدَلَ البَيْتِ بَيْتانِ".. والعلاج بالكتابة والقراءة

تدخل قصة "لي بَدَلَ البَيْتِ بَيْتانِ" ضمن نطاق العلاج بالكتابة والقراءة، فقد ذكرت الكاتبة والشاعرة اللبنانيّة "لوركا سبيتي"، في مقابلة تلفزيونيّة، أنَّها عبّرت في هذه القصة، عن تجربتها الشخصيّة حين انفصلت عن زوجها، حتى إنَّ اسم بطل القصة هو اسم ابنها "آدم"، ورُبَّما هذا ما منح القصة روحًا ودمًا، فاستطعنا أن نلمس مدى المصداقيّة والشفافيّة في سرد وجع الطفل.. لقد كانت تكتب بقلبِ أُمٍّ ومُزادٌ إليهِ حسّ الشِّعر الذي تتمتع بهِ، ما أضفىٰ على القصة عبارات وجدانيَّة بسيطةٌ في آن، تتميز بدقة وصول المعنى، وتراعي مستوى الطفل اللغوي من دون تسطيح أو تعقيد.

من يقرأ هذه القصة ولأي فئة عُمريّة؟

هناك أراء تطالعنا، أحيانًا، لا ترى من أهمية لإثارة مثل هذه المواضيع الحساسة في ذهن الطفل. لكننا نرىٰ، من ناحية تربويّة، أهمية طرح الموضوعات الإنسانيّة والاجتماعية كافة التي تتصل بحياة الطقل، ليرى آفاقًا جديدة لم يرها من قبل؛ لاسيما حين يكون في سنٍ يطرح فيه كثيرًا من الأسئلة. إذ لا يكفي الرد على أسئلة الصغار، الأهم هو تحفيز عقولهم للحصول على الإجابة. 

 "تجلسني في حضنها، وتخبرني بأنها اتَّفقت مع بابا على الطلاق." "وما معنى الطلاق؟" "يعني أنَّنا لن نسكن معًا في هذا البيت" "وأين ستسكنان؟ وأين سأسكن أنا؟ ومع من؟ وكيـف؟ ولماذا؟" 

هذه الأسئلة المُثارة، في القصة، تختص بتكوين مفهوم الطلاق عند الطفل. للإجابة عنها تربويًّا؛ يجب أن تحرص على تحقيق عاملين: الأوّل مُراعاة عمر الطفل، فلا نعطيه إجابة أكبر من سنهِ. والعامل الثاني؛ ألّا نُقدم له إجابة خاطئة، كي لا يفقد الثقة بأجوبتنا في المستقبل. هذا هو الخيط السردي الذي تتبعه أحداث القصة منذ بدايتها.

الأمر الآخر الذي يجعلنا نُرشح بقوّة هذه القصة، لتكون ضمن مكتبة الطفل، أنَّها تسهم في تأسيس الأمن الوقائي التربوي، وهو بمثابة إعطاء جرعة من المناعة نُحصن بها وعي الطفل قبل حدوث المشكلة. إذ إن الطلاق منتشر في مجتمعاتنا، وقد يغزو حديث الصغار في المدارس، فإن صادف ابنكَ طفلًا يشعرُ بالخجل والشعور بالنقص لانفصال والديه، يستطيع طفلُكَ القارئ لقصة كهذه، أن يمارس دور البطل في العلاقة مع صديقه، إذ سيروي له القصة، ويجعله يتجاوز شعوره السلبي، ويحتضنهُ، ويخلق لهُ جسرًا من التواصل مع باقي زملائه. 

أثارت هذه القصة، على لسان بطلها، تلك المخاوف حيال الطلاق، فقد قال "آدم":

-    "ولكن ماذا سأقول لأصدقائي في الصف؟" "يخبرني أبي أنَّ الطلاق ليس عيبًا" 

أما بالنسبة إلى الفئة العمريّة التي تُناسبها هذه القصة، فقد تبدأ من عمر السادسة إلى الثاني عشر. إلاّ أنَّني، شخصيًا؛ في قصص الأطفال، أحبُّ القفز على تلك القوالب العمريّة، فقد تتسع وقد تصغر، وفي عالم القراءة كلُّ شيءٍ مُباح، إنْ تَعاملنا معهُ بِحرفة وفَنّ. يمكن أن نقتني قصة لا لأجلِ أطفالنا؛ بل لأجل رغبة ذاتيّة بأن نُعالج الطفل الذي ما يزال موجودًا في داخلنا، ونحن نقرأ معهم قصة في المساء.. فكم من المفاهيم المغلوطة التي حملناها معنا منذ الصغر، خصوصًا أنَّ خيالنا الطفولي أفسدته تلك القِصص الّتي جاءت على غرار "الأميرة النائمة" التي يُوقظها الأمير بِقُبْلة، ورسمتْ لنا تصورًا عن الحبِّ المثالي الخيالي. هذا ما انتقدهُ الشاعر السوري الراحل "نزار قباني"، في قصيدتهِ "إلى تلميذة"؛ حين قال:

«قصصُ الهوىٰ قد أفسدتك .. فكلُّها
غيبوبةُ .. وخُرافةٌ .. وخَيَالُ
الحبُّ ليس روايةً شرقيّةً
بِختامها يتزوَّجُ الأبطالُ»

من أجل ذلك؛ هكذا قصة ترسمُ للطفل واقعًا طبيعيًا، يُعزز ما نؤمن بِهِ أنَّ البيت الآمن ليس هو البيت الخالي من الأخطاء والمشكلات، بل هو الذي يسعى دومًا أن يجتهد ليتجاوزها ويخلق بيئة آمنة لأفراد الأسرة. إنَّ قصصًا من هذا النوع تُساعد المُربيين في هذه المهمة، لذلك؛ من المهم اختيار قصص تعالج المشكلات الاجتماعية التي يكون في وسطها الأطفال، وتمثيلها على مسرح المدرسة، في نوع من العلاج بالسيكودراما.

ختامًا.. 

يبقى أن نؤكد أنَّ موضوع هذه القصة، وكل ما أثرناهُ، عنها، ليس دعوة لتزيين الطلاق في عيون الصغار،  هو محاولة لاحتضان الآثار السلبية ومدواة الجراح الغائرة والندوب التي يتركها الطلاق في نفوس أطفالنا، حين يكون لا بدّ منه، حتى لو كان قائمًا على أسس الاحترام والرحمة وحفظ الحقوق، حينها سيفهم الطفل أنه طلاق زوجين لا طلاق أبوين.
 

مواضيع مرتبطة

أمي و زجاجة العطر.. قصة من أروع ما قرأت..!

لقد كبرْتُ وكَبُرتْ معي زجاجة العطر..!

«أحلامُ مالك»  قصة مغامرات للأطفال

بطل الرواية صبيّ طريف وفضوليّ يُدعى مالك، يحبّ المعرفة السريعة فيطرح السؤال تلو السؤال