السوشيال ميديا وانفلات التعاقد المجتمعي

السوشيال ميديا وانفلات التعاقد المجتمعي

الإنسان ينتقل إلى نظام السيولة التي تحدد معنى وجوده في عالم يضيع منه الثبات والاستقرار

زهور كرام/ القدس العربي

 كل شيء يتغير في عصر التكنولوجيا. وكل تغيير يُسرع في إحداث تحول تاريخي قد يصعب فهمه بالسرعة الابتكارية نفسها. ولأن التقنيات التكنولوجية تتميز بخدمات تدهش الإنسان، من حيث طبيعتها وجودتها وسرعتها، فقد بات الوضع يتطلب انخراطا موازيا للتفكير من أجل تحليل الوضعيات الجديدة للإنسان والعالم.

تتجلى السوشيال ميديا ومختلف المنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها تمظهرات خدماتية تقترح على الإنسان مواد استهلاكية بخيارات مفتوحة على كل الاحتمالات، مع طابع جديد في نوعية الاستهلاك الذي انتقل من استهلاك ُمنتَج مادي يتم التعاقد حوله، اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا إلى استهلاك محتوى سائل، ينعكس بسرعة على حياة الإنسان وعلاقته بمرجعياته الفكرية والعقائدية والثقافية والأنثروبولوجية. تشكل المنتجات الرقمية من ألعاب وبرمجيات واشتراكات في منصات، إلى جانب المحتوى الرقمي من فيديوهات وصور وموسيقى ولايفات، وغيرها من محتوى يتم استقباله رقميا مجمل المواد التي يستهلكها الإنسان بشكل سريع ومتنوع بتنوع المنصات ومواقع التواصل الاجتماعي، وبسرعة خدمات وسائل التواصل.

إذا رجعنا إلى عدد مستخدمي الإنترنت في العالم العربي، ومواقع التواصل إلى حدود منتصف عام 2025 حسب بيانات حديثة، نجد ما يعادل 348 مليون شخص من إجمالي سكان المنطقة (حوالي 496 مليون)، أما مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي فيصل إلى حولي 228 مليون شخص. تعبر هذه الأرقام/المؤشرات على وضعية أفراد المجتمعات العربية، الذين يوجدون في البيئة الافتراضية، بنسبة عالية، ما يجعل التغيير سائلا، والتحول إلى وضعيات مختلفة يتم بشكل سريع، ويغير مختلف أشكال الثبات في القيم وأنماط العيش والمرجعيات.

لذلك، فإن الإنسان ينتقل إلى نظام السيولة التي تحدد معنى وجوده في عالم يضيع منه الثبات والاستقرار، وتتغير فيه الوظائف والعلاقات والمؤسسات والقيم، ومع سرعة الابتكار التقني، فإن السيولة تتحول إلى مأزق للإنسانية، فلا شيء يدوم أو يستمر، لأن التكنولوجيا خاصة مع تطور الذكاء الاصطناعي إلى مراحل متقدمة جدا، تُحوِل الإنسان إلى مُنتَج استهلاكي، فيتحول – بدوره- إلى شيء من بين أشياء، ومُنتَج للبيع والتسويق، ودخول السوق الخوارزمي. يستهلك الفرد المحتوى والمنصات والبيانات المطروحة في الشبكة والمنتوج الرقمي، لكنه يتحول ذاته إلى مادة مُستهلكة من طرف المؤسسات التكنولوجية العملاقة والخوارزميات.

يتم ذلك بصيغ متعددة منها، أنه يتحول إلى بيانات لصالح شركات تكنولوجية من جهة، ويصبح محتوى رقميا مبرمجا حسب المطلوب، في نظام السيولة الخوارزمية ثانيا، وبالعمل على إفراغ الإنسان من جوهره، وجعله وعاء للاستخدام التكنولوجي ثالثا، دون أن يعني ذلك إقصاء الأبعاد الوظيفية للتكنولوجيا في حياة الإنسان، وهذا مجالٌ علمي يخدم الإنسان ويُطور معارفه ويساعده في أداء مهامه، ويعالج مشاكله في مختلف مناحي الحياة والعمل والصحة والتعليم والفلاحة وغير ذلك.

غير أن التركيز على نظام السيولة هنا يخص بالأساس انفلات التعاقد المجتمعي الثقافي للإنسان، وانتقال المجتمعات بقفزة غير مرئية إلى أزمنة ثقافية جديدة، يتراجع فيها المشترك، وتتلاشى فيها القيم المتعاقد عليها، وتضيع المرجعيات المألوفة وسط زحمة المرجعيات الصاعدة بسيولة خطيرة، إلى حد الوصول إلى نقطة لا مرئية للأشياء والعلاقات والقيم، بفعل منطق السيولة الذي يُخرج كل شيء من ثباته، بجعله يتغير بسرعة، يصعب معها الفهم والتفكيك والتحليل وإنتاج المعنى.

لعل اعتماد توصيف الإنسان بـ»المُستخِدم» للمنصات ومواقع التواصل الاجتماعي، يشكل مؤشرا دالا على وجهة نظر التكنولوجيا للإنسان، وتحكمها الخوارزمي في وجوده في البيئة الافتراضية.

لقد ارتبطت علاقة الفرد بالسوشيال ميديا بتعبير الاستخدام وليس الفعل، والتمييز بين الاستخدام والفعل دقيق وعميق في الوقت نفسه. فالمستخدم هو الشخص الذي يتم تشغيله وتوجيهه لاستخدام شيء معين، أو يستعمل شيئا أو أداة ويستفيد منها، دون أن يكون بالضرورة فاعلا، أو منتجا أو مبادرا للفعل والإنتاج، أما الفاعل فهو الذي يُنجز الفعل أو الشيء، ويكون صاحب المبادرة والإنتاج.

لهذا يهيمن الاستخدام والمستخدم في السياق التكنولوجي، نظرا لكون التقنيات الرقمية والمنصات التواصلية هي المحدد للفعل. يُؤثر نظام السيولة في الوجود البشري، وينعكس على معنى هذا الوجود، وما يُعمق خطورة الوضع الإنساني مع هذا النظام، أن التكنولوجيا برقمياتها وذكائها الاصطناعي تتطور بسرعة خيالية، وتقترح خدمات وسائطية تطور ذاتها بذاتها، ويجد فيها المُستخدم/ الإنسان كل طلباته ورغباته، يُعزَز ذلك بالمال ووفرته خاصة مع منصة تيك توك. وبهذا الوضع الخدماتي المتطور والسخي في الوقت نفسه، فإن التقنيات والمنصات الرقمية تتحول – بدورها- إلى وسائط استهلاكية للمستخدم الذي تأخذه السيولة إلى منطقة ضبابية من وجوده البشري.

بملاحظة سريعة لمنصة التيك توك، وطريقة الاستخدام في كثير من المجتمعات العربية، وتحليل صيغة اللايفات، التي تحولت إلى بيئة للتسول بشتى الطرق، وحولت مختلف العلاقات الإنسانية والمؤسسات الاجتماعية (الزواج، الأسرة، الصداقة) والقيم والتعاقدات المجتمعية والمرجعيات المألوفة (دين، تعليم، ثقافة، معرفة، قانون) إلى عرض مشهدي يتعرى من اللغة السليمة، والقيم المشتركة بين أفراد المجتمع، ويتحول كل شيء إلى سيولة مرعبة تشبه الفيضان، بل وتتجاوزه، والإعصار لكنها تتغلب على قوته عندما لا تترك أثرا له. فالمعلومة التي كانت تُخزن في الكتب والوثائق، وتحيا بذاكرة أصبحت سائلة، لا تثبت في مكان، لأنها تتغير وهي تنتقل من موقع إلى آخر، والكل يتقاسمها ويعلق عليها، فلا تصل إلى مكان التخزين، بل تظل سائلة في متاهة التقاسم والتفاعل الذي يجعل من المتفاعلين مراجع ومصادر، وعندها تضيع ذاكرة المعلومة، وقد تتحول إلى متاهة لا تترك الأثر. ولأن كل مستخدم للمنصات يُقيم في البيئة الافتراضية فإنه ينصاع لنظام هذه البيئة، ويتحول عدد متابعيه إلى مؤشر عن نجاحه وهويته ومعنى وجوده، لهذا نتحدث عن الهويات السائلة للمستخدم للسوشيال ميديا، وكيف تؤثر هذه الهويات الجديدة في الهويات المحددة سلفا بمرجعيات اجتماعية وتاريخية وثقافية ولغوية، وكيف يحدث الاصطدام بين المألوفة والسائلة، وتأثير ذلك على استقرار المجتمع.

إذا كان التعاقد المجتمعي يختلف عن التشريعات القانونية، لكونه يتشكل عبر مراحل تاريخية، ويتحكم فيه عنصر الوراثة، وتتبناه المجتمعات باعتباره ذاكرة أنثروبولوجية تتجلى في سلوك أفراد المجتمعات ونمط حياتهم وطبيعة تواصلهم مع بعضهم ومع الآخر، وتُؤمن وجودهم واستقرارهم، كما تشير إلى بصمة خاصة بهم، تُحددهم كـ»آخر» في علاقة مع الآخر الأجنبي، ما يجعل من الصعب تغيير هذا التعاقد بشكل سريع، في حين يمكن التغيير في المواد القانونية، فإننا نلاحظ مع نظام السيولة أن التعاقد المجتمعي ينفلت من صوابه التاريخي، حين يتغير بسرعة غير مرئية، ويفقد ذاكرته، ويتلاشى في صمت عجائبي، تعبر عنه ظاهرة الهجرة من البيئة الواقعية إلى البيئة الافتراضية، وممارسة الحياة بالمنصات بقطيعة مبرمجة مع التعاقد المجتمعي المألوف لدى أفراد المجتمع.

إن من يتابع الخريطة السياسية للعالم اليوم، يلاحظ سيولة في الأحداث، التي تغير المسارات السياسية والاقتصادية، وتهدد الاستقرار والأمن، وتجعل العالم مفتوحا على كل الاحتمالات التي قد لا يتوقعها العقل البشري، وفي المقابل يضيع التعاقد المجتمعي المشترك، وتهيمن ثقافة المنصات العابرة التي لا تترك الأثر، تخلخل القيم والمؤسسات الاجتماعية وتحول المنصات إلى شكل جديد من التسول باعتماد الأطفال والمسنين واللغة الاجتماعية ومشاكل الحياة الأسرية، وبواسطة الفضح والتنمر والسب، لا شك أنها مفارقة خطيرة، تجعلنا نتساءل حول أي تعاقد ممكن لمجتمعنا؟ وكيف يمكن مواجهة التحديات العالمية بسيولة مجتمعية؟ وأي مشترك تستطيع المجتمعات التحصين به لمواجهة السياسات الدولية غير المستقرة؟

عندما تغيب مثل هذه الأسئلة، ويتعطل التفكير، عندها نستطيع أن نرفع علامة الخطر على مجتمع تأخذه التكنولوجيا إلى زمنها، ليس باعتباره فاعلا في هذا الزمن أو شريكا في كتابته إنما باعتباره منتوجا استهلاكيا.

مواضيع مرتبطة

ستة أنشطة سهلة تعزز نمو دماغ الطفل وتدعمه عاطفيًا

رحلة تنمية دماغ الطفل لا تحتاج إلى أدوات خاصة أو تدريب معقد..!

كيف يتشبّع الطفل بأخلاق مجتمعه؟

بناء الإنسان الأخلاقي هو عملية معقدة ومتعددة الأبعاد تبدأ منذ الطفولة.

كيف نخوض حوارًا آمنًا مع المراهق عن صحته النفسية؟

التواصل مع المراهق فنّ يتطلب توازنًا دقيقًا.

كلمات مفتاحية

في السلامة الأسرية