كيف يتشبّع الطفل بأخلاق مجتمعه؟

كيف يتشبّع الطفل بأخلاق مجتمعه؟

بناء الإنسان الأخلاقي هو عملية معقدة ومتعددة الأبعاد تبدأ منذ الطفولة.

فادي الحاج حسن / كاتب لبناني

تمثل الأخلاق أساسًا جوهريًا، في مسيرة الإنسان ومجتمعه. وتتضح أهميتها، بشكل خاص، في مرحلة الطفولة المبكرة التي تُعد الحاضنة الأولى لبذور الشخصية الأخلاقية.

إن الفعل الأخلاقي ليس مجرد تصرف عابر، هو لبنة تتكرر وتتأصل عبر الزمن حتى تتحول إلى عادة راسخة تشكّل ملامح سلوك الإنسان، منذ الطفولة، وتوجهه باستمرار. هذا المفهوم يتوافق مع نظرية الفضيلة عند أرسطو، والذي أشار إلى أن الفضائل تنمو وتتطور بالممارسة المستمرة للعادات الحسنة، وأن الإنسان يصبح عادلًا أو شجاعًا نتيجة التكرار المستمر لتصرفاته الأخلاقية.

إدراك قيم الأخلاق عملية تراكمية

هذا المعنى أكدت عليه تعاليم الإسلام في أن الأخلاق ليست مجرد فكرة نظرية؛ هي عملية تراكمية تبدأ بفعل فردي واعٍ يدعمه التوجيه والرعاية ليصبح عادة متجذرة تسهم في تشكيل بنية الطفل الأخلاقية. هذه المرحلة الحساسة تشكل نقطة انطلاق لبناء الإنسان القيمي، حين تُغرس القيم والمبادئ التي تحدد مسار حياته وعلاقته بمحيطه الاجتماعي.

إذ إن بناء الفرد الأخلاقي يبدأ من الطفولة، حين يكتسب الطفل القدرة تدريجيًا على اتخاذ قرارات مبنية على قيم ومبادئ متينة، يتطور معه إرادة حرة ومسؤولية ذاتية. وتعد القدوة الحسنة والدعم التوجيهي عاملين أساسيين في صقل سلوكه الأخلاقي. وفي هذا الإطار، تؤكد نظرية "أدولف بونيه" للأخلاق الاجتماعية أن الالتزام الأخلاقي يمتد من احترام الفرد لذاته إلى احترام الآخرين، وأن الأخلاق نظام تفاعلي بين الفرد والغير يستند إلى مبادئ الاحترام والتعاون أساسًا للعلاقات الإنسانية المستقرة. من هنا، يصبح تعليم الطفل احترام الذات والآخرين حجر الزاوية، في تشكيل شخصيته الأخلاقية، حين يتعلّم الموازنة بين حقوقه وواجباته، ويسعى بحرص إلى حل التناقضات الحاصلة بينهما.

يقول النبي محمّد- صلّ الله عليه وآله وسلم- إنّ: "ما نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا من نَحْلٍ أفضل من أدبٍ حَسَنٍ"، مؤكدًا أن أفضل ميراث يتركه الوالد لولده هو الأدب والأخلاق الحسنة التي تبقى معه دائمًا. كما وجّه الإمام عليّ- عليه السلام- الآباء قائلًا: "لا تربوا أبناءكم كما رباكم أباؤكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم"، داعيًا إلى ضرورة التكيف مع تغير الأزمنة في أساليب التربية مع الحفاظ على القيم والثوابت.

لقد كان الإمام عليّ يولي أهمية بالغة للتربية العملية والتوجيه المستمر، مشددًا على أن الطفل يتلقى العلم ليس بالنصح اللفظي وحده؛ أيضًا بالقدوة والعمل الصالح. كذلك، تظهر سيرة السيدة فاطمة (ع) أنها كانت تغذي أبنائها بقيم الإيمان والخير عمليًا وروحيًا، فتبيّن لنا أهمية القدوة سلوكًا عمليًا في التربية.

الدور الخطير للمحيط الاجتماعي والأسري

تؤكد تعاليم الإسلام في أن وعيًا أخلاقيًا يتأسس عليه بناء شخصية الطفل، من دون بيئة أسرية متماسكة، أمر بالغ الصعوبة. إذ إن الأسرة البيئة الأساسية التي يستقبل فيها الطفل قيمه الأولى. فهي تقدم نماذج يومية تتضمن التوجيه والانضباط العاطفي، ما يدعم نظريات علم النفس التنموي مثل منظور "جان بياجيه" عن تأثير المحيط الأسري والاجتماعي في نمو إدراك الطفل الأخلاقي، وكذلك تأكيدات ليف فيغوتسكي أهمية الأدوات الثقافية والسياقات الاجتماعية في تعلم المعايير الأخلاقية.

أما في إطار التوجيه الديني، فقد جاء في الحديث عن النبي محمد (ص): "مروا أولادكم بالصلاة لسبع… "، ما يدل على أهمية غرس الانضباط والالتزام منذ أعمار صغيرة. كما يشدد الإمام الحسن المجتبى (ع) على الاهتمام بالغذاء الروحي والعقلي إلى جانب الجسد بقوله: "عجبت لمن يتفكّر في مأكوله كيف لا يتفكّر في معقوله"، ما يؤكد ضرورة توازن التربية الجسدية والروحية.

فضلًا عن الأسرة، تؤدي المدرسة والمجتمع والمؤثرات الخارجية دورًا بالغ الأهمية، في تشكيل وعي الطفل الأخلاقي. ونظرية التعلم الاجتماعي لـــ"ألبرت بندورا" توضّح أن الإنسان يتعلّم، أيضًا، من خلال مراقبة تقليد سلوك الآخرين، ما يعني أن بيئة الطفل الاجتماعية ومجتمعه يؤثران مباشرة على مدى التزامه بالقيم الأخلاقية. ويظهر من تعاليم النبي محمّد (ص)  تعامله الرحوم مع الأطفال؛ حين كان يسلّم عليهم ويمازحهم ويعلّمهم آداب المأكل والمشرب، مثالًا على التواصل الإيجابي الذي يدعم بناء شخصية الطفل.

تتجلى الصفات الأخلاقية، مثل الصدق، الأمانة، العطف، والاحترام ضمن سلوكيات طفيفة يومية تحمل دلالات عميقة عن شخصية الإنسان. وتؤدي لغة الجسد دورًا حاسمًا في التعبير عن هذه القيم؛ فالابتسامة الحقيقية والنظرات الصادقة تعكس نقاء الضمير وقوة الالتزام الأخلاقي، كما بيّن "ألفريد آدلر"، في دراساته عن التعبير النفسي غير اللفظي. ومن هنا، تبرز أهمية تعليم الطفل التعبير عن هذه الصفات بوعي لتعزيز شخصية أخلاقية متزنة. كما أوضح الإمام جعفر الصادق (ع) أهمية الوفاء بالوعود مع الأطفال، مشيرًا إلى تأثير ذلك البالغ في بناء الثقة والمصداقية. وكذلك شكّل النبي محمّد (ص) في تعامله الحنون مع الصغار، حين كان يبتسم لهم ويحتضنهم، معلّمًا معاني المحبة والرحمة التي تترجم قيم الأخلاق إلى واقع.

القيم الأخلاقية الضابطة الأوحد

على الجانب الآخر، يشكل الإهمال في التربية الأخلاقية والحياتية مؤشرًا خطيرًا لانحدار شخصية الطفل الأخلاقية، ويعود غالبًا لجوانب جهل أو ضعف نفسي أو اجتماعي. وتوضح الدراسات النفسية أن ضعف الثقة بالنفس والتعرض لضغوط متعددة يعرقل قدرة الفرد على التمسك بالقيم الأخلاقية ما يؤدي إلى انزلاق سلوكي.

يتباين بين الشخصية الضعيفة التي تفتقد للصمود وذات الشخصية القوية التي تستند إلى ثقة بالنفس والتزام مستمر حتى في الظروف الصعبة. في حقل التربية، يظهر الإهمال في عدم تعليم المسؤولية وضعف التصحيح للسلوكيات الخاطئة الذي يؤثر سلبًا على البناء الأخلاقي للشخصية. يقول الإمام عليّ "أدّب صغار أهل بيتك بلسانك على الصلاة الطهور…"، معززًا أهمية توجيه الطفل وضبطه ضمن حدود معقولة. ويشير الإمام إلى ضرورة توفير بيئة داعمة ومتوازنة لكي ينمو الطفل بثقة ووعي قادرة على مواجهة التحديات والالتزام بالقيم.

ومن جواهر الأخلاق احترام الآخر والاعتراف بكرامته وحقوقه، وهو ما أكده الإسلام قبل فلاسفة الحضارات الكبرى التي ترى الإنسان غاية في ذاته لا وسيلة لتحقيق أغراض أخرى. والاحترام المتبادل هو أساس بناء الثقة والتعايش السلمي والتعاون. ويبدأ تعليم الأطفال هذا الاحترام بتقدير كل فرد لذاته والآخرين بصرف النظر عن الفروقات. بقد كان النبي محمّد يعلّم الأطفال الاحترام والتقدير بمخاطبتهم والتحايا والمزاح الحسن، وبذلك يغرس فيهم أن الاحترام سلوك متبادل لا يحتكر على جيل أو طبقة معينة. وقد أكد أهل بيت النبي العدل وعدم التمييز في معاملة الأطفال، ما يعزز شعورهم بالكرامة. ويعد هذا المبدأ حجر الزاوية في بناء ثقة الطفل بنفسه وعلاقاته الاجتماعية، ما يجعل منه عضوًا فاعلًا ومؤثرًا في محيطه.

ختامًا، يمكن القول إن بناء الإنسان الأخلاقي هو عملية معقدة ومتعددة الأبعاد تبدأ منذ الطفولة، وتشمل العوامل الذاتية والبيئية الأسرية والاجتماعية، وتستند إلى القيم الدينية الإسلامية التي تؤسس لبناء شخصيات أخلاقية متزنة ومسؤولة. وذلط  قبل النظريات الفلسفية والنفسية مثل: نظرية الفضيلة لأرسطو،والأخلاق الاجتماعية لبونيه نظريات بياجيه وفيغوتسكي والتعلم الاجتماعي لبندورا وفلسفة كانط، ودراسات آدلر في التواصل غير اللفظي. مع ذلك، فإن المصدر الحيوي الراسخ هو تعاليم النبي محمد صل الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام، الذين قدموا نموذجا عمليًا للقيم الإنسانية والأخلاقية.

مواضيع مرتبطة

كيف نخوض حوارًا آمنًا مع المراهق عن صحته النفسية؟

التواصل مع المراهق فنّ يتطلب توازنًا دقيقًا.

الدمية «لابوبو» تحظر في العراق لأسباب دينية واستغلال المستهلكين

اللعبة الصغيرة تسهم في تعزيز العدوانية أو القلق عند الأطفال والمراهقين..

كيف يؤثر العقاب البدني على صحة الأطفال وتطورهم الذهني؟

تؤكد الأدلة العلمية الحديثة أنه يترك آثارًا سلبية طويلة الأمد على الأطفال

كلمات مفتاحية

نصيحة من متخصص