د. جمال مسلماني/ خاص موقع "أمان الأطفال"
في السنوات الأخيرة؛ شهد لبنان تصاعدًا ملحوظًا في نشاطات التجسس الإلكتروني، فقد استغل العدو الإسرائيلي الأوضاع الاقتصادية الصعبة والبطالة المتفشيّة بين الشباب اللبناني لتجنيد عملاء عبر الإنترنت. إذ أعلنت سابقًا الأجهزة الأمنية اللبنانية عن تفكيك أكثر من 17 شبكة تجسس إسرائيلية، معظمها جرى تجنيد عناصرها رقميًا!
تعتمد أجهزة الاستخبارات على استراتيجيات متطورة لتجنيد العملاء عبر الإنترنت. تبدأ العملية بإعلانات ممولة على منصات التواصل الاجتماعي، تعرض فرص عمل مغرية برواتب بالدولار الاميركي، وعمل من المنزل، ومغريات أخرى لشد انتباه الشباب وجذبهم. لكن ما لا يعرفه كثيرون أن خلف هذه الشاشات، غالبًا، ما يجلس رجال الاستخبارات العدو لاصطياد فرائسهم في لبنان!
قبل سنوات، كشفت الأجهزة الأمنية اللبنانية عشرات الشبكات التي جنّدها الموساد الإسرائيلي، عبر رسائل بريد إلكتروني، حسابات وهمية على فيسبوك وإنستغرام، وتطبيقات أخرى. في العام 2021 وحده، أعلنت المديرية العامة للأمن العام تفكيك 17 شبكة تجسس، معظمها جرى تجنيد عناصرها رقميًا. بعضهم كان يعتقد أنه يعمل مع مؤسسات إعلامية دولية، وآخرون مع شركات متخصصة في الأمن السيبراني. الحقيقة أن العملاء لم يروا وجه مشغّلهم يومًا. كل ما عرفوه كان رقم هاتف أو حساب وهمي، وتعليمات غامضة تنفذ من بُعد!
أحد الأمثلة الصادمة كانت قصة "أ.ح"، الشاب العشريني من الجنوب الذي روى في التحقيقات كيف تلقّى عرضًا من صفحة على فايسبوك باسم "مؤسسة أبحاث شرق أوسطية"، تطلب مختصين في التكنولوجيا والأمن الرقمي. الشاب أرسل بياناته، وتلقى فورًا تواصلًا عبر واتساب من رقم خارجي، عُرض عليه تدريجيًا مهام خفيفة: تجميع معلومات عن حسابات معينة، تتبّع أشخاص، تصوير أماكن وغيرها. ومع مرور الوقت، بدأ يُطلب منه تصوير مراكز عسكرية وأماكن حساسة، وعندما حاول التراجع، بدأ الابتزاز بنشر صور ومحادثات خاصة جمعها مشغّلوه طوال أشهر.
العدو بات خبيرًا في فهم تركيبة المجتمع اللبناني وفي مخاطبة شبابه بلغتهم وأوجاعهم. يُطلق صفحات تحت أسماء لبنانية أو عربية، يصمّم إعلانات ركيكة ويتجنّب التصميم الاحترافي أحيانًا ليجعلها تبدو طبيعية كي لا يثير الريبة وأحيانًا يعتمد الاحترافية في التصميم والتهديف. كما يستخدم روابط Google Forms لجمع بيانات حساسة: الاسم الكامل، رقم الهاتف، عنوان البريد، مكان السكن، الاختصاص المهني، وأسماء الأصدقاء وغيرها.
في مرحلة لاحقة، تبدأ الاتصالات عبر محتلف تطبيقات المراسلة المشفّرة؛ ومنها على سبيل المثال لا الحصر: Signal، Telegram،Whatsapp وحتى عبر الماسنجر لكل من Instagram وFacebook. وأحيانًا، يُجرون اختبارات صدق وولاء للضحية عبر تجربتهم بمهمات بسيطة وأحيانا معقدة. وإن تجاوب، يوقعونه تدريجيًا في مستنقع العمالة. وما يعزز خطورة هذه الأساليب هو أن أغلب الضحايا لا يدركون أنهم يتواصلون مع العدو، خاصة حين تنتحل شخصيات إيرانية أو عربية أو منظمات تزعم دعم القضية الفلسطينية.
لم تقف الأجهزة الأمنية اللبنانية مكتوفة الأيدي أمام هذه التهديدات. فقد تمكّن فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي من تفكيك أكثر من 15 شبكة تجسس للعدو، تنشط على مختلف الأراضي اللبنانية، وصولًا إلى سوريا. تستخدم الأجهزة الأمنية اللبنانية تقنيات متقدمة في الرصد والتحليل، بالإضافة إلى الاستعلام البشري، لمتابعة الشبكات المشبوهة وتوقيف المتورطين. كذلك الأمن العام اللبناني اعتمد استراتيجية ذكية لتتبّع مسارات الأموال الإلكترونية، تحليل حركة البيانات عبر سرفرات خارجية، والتنسيق مع شركات اتصالات محلية لملاحقة الأرقام المشبوهة. كذلك استعانت الأجهزة بتقنيات الذكاء الصناعي لتحليل أنماط الإعلانات والصفحات المشبوهة. وخلال التحقيقات، اعترف عدد من الموقوفين بأنهم أُغْرُوا بوظائف مزعومة عبر "منشورات" على Facebook وInstagram ومنصة "LinkedIn".
في العام 2019، أُلقي القبض على (ج.أ) في بيروت وهو شاب ثلاثيني خبير في تكنولوجيا المعلومات وذلك بعد أشهر من العمل لصالح العدو مقابل نحو 8000 دولار. بدأت قصته عبر إعلان على LinkedIn عن وظيفة في شركة أمن معلومات أوروبية. فبعد مراسلات مطوّلة، بدأ في تسريب بيانات عن بنى تحتية لبنانية، قبل أن يُلقى القبض عليه بعملية أمنية دقيقة. أيضًا، واحدة من أخطر القضايا، كانت شبكة تتواصل مع لبنانيين في البقاع والجنوب عبر إعلانات تموّل من دول أوروبية، تَعِد بفرص عمل في "شركات دولية للطاقة البديلة". وتبيّن لاحقًا أن الهدف الحقيقي كان تصوير قواعد عسكرية ومواقع محددة.
في تشرين الأول 2024، أعلن الجيش اللبناني توقيف سوريين اثنين جُنّدا عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتوثيق آثار الغارات الإسرائيلية على مناطق لبنانية. أشارت التحقيقات إلى أن الموساد استخدم صفحات وهمية لاستدراجهم، حين طُلب منهم تصوير مواقع محددة وتوثيق نتائج الغارات، ما يُعد انتهاكًا صارخًا للأمن الوطني. وفي حادثة أخرى، أوقف المدعو "ح. أيوب" من بلدة بيت ليف، بعد أن تبين تعامله مع العدو منذ بداية حرب غزة، وتقديمه معلومات عن قياديين في المقاومة.
ما يفعله العدو اليوم، عبر هذه الحملات، يتجاوز العمل التقليدي. إنها حرب من نوع آخر وأدواتها اليوم:
المثير للريبة أن بعض هذه الحملات تُدار من أراضٍ أجنبية أو عربية إضافة للكيان الاسرائيلي، عبر شبكات VPN معقّدة، ما يصعّب نوعًا ما من تتبعها، وإن كانت الأجهزة الأمنية اللبنانية قد تمكنت مؤخرًا من تعطيل بعضها.
في مواجهة هذا التهديد المتزايد، يجب على المجتمع اللبناني، بما في ذلك المؤثرين والمعنيين، أن يؤدوا دورًا فعالًا في التوعية والتصدي لهذه الأساليب. ويمكن تحقيق ذلك من خلال:
لبنان في عين العاصفة الاستخبارية وجمع المعلومات لمصلحة العدو، والذي قد لا يحتاج إلى إرسال طائرات أو فرق خاصة ما دام قادرًا على الإيقاع بشباننا من وراء الشاشات. الحذر والوعي مسؤولية فردية ومجتمعية ووطنية. فلنجعل من وعينا جدارًا قويًا وحصنًا منيعًا لكي يبقى وطننا وشبابه قويًا وعصيّا على الهزيمة والانكسار.
إن الهواتف تعد “سرطانا لأطفالنا” تسبب “العزلة والوحدة وتقلل من الانتباه،
يؤكد العلماء أن التواصل مع الأصدقاء الحقيقيين فقط هو ما يجلب السعادة،
الأجهزة المتصلة، ضمن شبكة واحدة، حتى لو لم تكن متصلة بالإنترنت، تتبادل فيما بينها إشارات ومعلومات.
2025 © جميع الحقوق محفوظة لموقع أمان الأطفال