تخيّل أن تكون طفلًا، تملؤك البراءة والأمل، تذهب مع أقرانك في رحلة مدرسية، تحمل في قلبك ثقةً عمياء بالكبار الذين يفترض بهم أن يحموك. لكن تلك الثقة التي منحتها لهم تخون فجأة.
هذه الخيانة ليست مجرد فعل جسديّ، بل جرحٌ عميقٌ لا يترك أثرًا في الجسد، بل يختبئ في نظرتك التي تغيّرت، في صمتك الذي يزداد ثقلًا، في سلوكك الذي لم يعد كما كان. جرحٌ لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يهدم داخلك شيئًا عظيمًا، شيئًا لا يُشفى بسهولة. فكيف يمكن لمن يُفترض به الحماية أن يتحول إلى مصدر الخوف؟ وكيف يمكن للمجتمع أن يستمر في الصمت بينما تُنتهك براءة أجياله؟
حادثة ديشونيه: تحرّش جماعي بأطفال في رحلة مدرسية
في 22 أيار 2025، عبّرت وزارة الشؤون الاجتماعية عن إدانتها الشديدة لحادثة التحرش الجماعي التي طالت عددًا من أطفال الصف الأول الأساسي خلال رحلة مدرسية إلى «Vere Bleu Park» في منطقة ديشونيه. ورأت الوزارة أن ما حدث يشكّل انتهاكًا خطيرًا لحقوق الأطفال وسلامتهم النفسية والجسدية، وخروجًا فاضحًا عن كل القيم الأخلاقية والقانونية، ولا سيما في أماكن يُفترض أن تكون آمنة مثل مؤسسات الترفيه والتعليم.
وأكدت الوزارة أنها تتابع القضية من كثب بالتنسيق مع وزارة العدل والجهات القضائية المختصة، لضمان محاسبة كل من يثبت تورطه، مع التشديد على سرعة التحقيقات وجديتها.
من جهتها، أصدرت مدرسة القلبين الأقدسين – عين نجم بيانًا أكدت فيه أن الحادثة وقعت أثناء رحلة ترفيهية لتلامذة الصف الأول الأساسي، حين تعرض عدد من الأطفال لسلوكيات مشينة من أحد المدربين العاملين على الـZip Line داخل الصالة. وأشارت المدرسة إلى أنها اتخذت على الفور الخطوات القانونية اللازمة، وفعّلت خطط الدعم التربوي والنفسي لمرافقة الأطفال وذويهم في التعامل مع آثار هذه الصدمة المؤلمة، بما ينسجم مع مسؤوليتها الأخلاقية والتربوية.
على الرغم من حساسية القضية، والتي تمنع قانونيًا كشف أسماء الأطراف المعنية، فإن أصواتًا عدة بدأت ترتفع – من أهالٍ وناشطين – مطالبة بإقفال مؤقت للمكان إلى حين استكمال التحقيقات، وبفرض رقابة صارمة على كل المرافق الترفيهية المخصصة للأطفال، خاصة تلك التي تستقبل رحلات مدرسية.
تُعيد هذه الحادثة المؤلمة طرح تساؤلات جوهرية عن غياب الرقابة والتدقيق في اختيار الكوادر التي تعمل يوميًا مع الأطفال، وتبرز الحاجة الملحّة إلى وضع معايير حماية أكثر صرامة في كل ما يخص سلامة الطفولة، نفسيًا وجسديًا.
كيف «يتكسر» وعي الطفل بالعالم وبنفسه؟
حين يتعرض الطفل لتحرش جنسي، لا يُنتزع منه الأمان فقط، بل يُخلخل إدراكه للعالم من جذوره. المكان الذي اعتاد اعتباره آمنًا يتحوّل فجأة إلى مصدر تهديد، والشخص الذي كان يُفترض أن يكون حاميًا يصبح هو المعتدي. هذا الانقلاب المفاجئ لا يترك أثرًا في الجسد فقط، بل يشق شقوقًا عميقة في روحه.
تتشوش ثقة الطفل في نفسه وفي الآخرين، ويتسلل إلى داخله شعور بالذنب والعار، كما لو أن الخطأ صدر عنه هو، رغم أنه الضحية. هنا، لا ينكسر وعي الطفل فقط، بل يبدأ عالمه الداخلي بالاهتزاز، ويتبدد إحساسه بالثبات والطمأنينة.
إن جرح التحرش لا يلتئم بسهولة، لأنه لا يُرى بالعين، بل يُحسّ في نظرة الطفل المرتبكة، في سكوته المفاجئ، في تصرفاته التي لم تعد كما كانت. وحتى بعد أن يمر وقت طويل، يبقى هذا الجرح شاهدًا صامتًا على لحظة كان من الممكن منعها… لو صرخ أحد بصوت أعلى.
من يعلّم الطفل أن يقول «لا»؟
أول دروس الحماية تبدأ من البيت. عندما يُعلَّم الطفل أن جسده ملكه، وأن له كامل الحق في رفض أي لمس أو تصرف يجعله يشعر بعدم الارتياح، يُبنى بداخله جدار الأمان الأول. هذا التعليم لا يتوقف عند الأسرة، بل يجب أن يمتد إلى المدرسة، حيث تُصبح التوعية مسؤولية تربوية تشاركية.
أن تقول لطفل: «جسدك ليس مشاعًا» هو خطوة صغيرة بكلماتها، لكنها عميقة في أثرها. فحين يُمنح الطفل المفردات لفهم حدوده، تُزرع في داخله قوة الرفض، والتمييز، وطلب المساعدة.
تعليم الطفل أن يقول «لا» ليس نزعًا لبراءته، بل هو ترسيخ لكرامته. هو حق، وواجب، ومسؤولية تقع على عاتقنا جميعًا.
دعوة إلى الحديث الجريء داخل الأسر والمدارس: نحو تربية لا تخشى الحقيقة
في زمن تتكاثر فيه مصادر الخطر على الأطفال، لم يعد الصمت فضيلة، ولا الخجل من الحديث عن الجسد والأمان الشخصي دليل تربية. بل إن هذا الصمت نفسه بات تواطؤًا غير مقصود مع العنف، ومصدر ضعف خطير يعرّض الطفولة للانتهاك من دون أي أدوات للدفاع أو الفهم أو حتى التبليغ.
الحوار المفتوح داخل الأسرة والمدرسة حول التوعية الجنسية، وحقوق الطفل في جسده وحدوده، لم يعد خيارًا، بل ضرورة. هذا الحوار لا يُفقد الطفل براءته، بل يحميها. فالعلم والمعرفة، حين يُقدّمان بلغة بسيطة تناسب وعيه وسنه، يبنيان فيه ثقةً بنفسه، ويمنحانه القدرة على التمييز بين ما هو طبيعي وآمن، وما هو مريب ومؤذٍ.
مع ذلك، لا تزال ثقافة «السكوت» و«العيب» تفرض نفسها كحاجز صلب أمام هذه التربية الوقائية. في كثير من البيوت والمدارس، يُنظر إلى الحديث عن التحرش كأمر محرج، أو كأنّه يزرع أفكارًا غير لائقة في أذهان الأطفال. لكن الحقيقة هي العكس تمامًا: الصمت هو ما يترك الأطفال عرضة للارتباك، والذنب، والصمت الطويل إذا ما تعرضوا لاعتداء.
هذه الثقافة التي تضع اللوم ضمنيًا على الضحية، وتخشى تسمية الأشياء بمسمياتها، هي بيئة مثالية للمعتدي. لأن الطفل في هذه البيئة لن يعرف أنه من حقه أن يقول «لا»، أو أن يخبر شخصًا موثوقًا بما حصل له. بل قد يشعر بالذنب، وكأن الخطأ كان منه.
تؤكد منظمة «كاير لحقوق الطفل» أن إنهاء ثقافة السكوت والعيب هو الخطوة الأولى نحو مجتمع يحمي أطفاله ويعطيهم صوتًا حقيقيًا.
إنّ كسر حاجز الصمت لا يهدد القيم، بل يُعززها. فما من قيمة أخلاقية أهم من حماية الكرامة الجسدية والنفسية للطفل. الحديث الجريء داخل الأسرة يخلق مساحة آمنة، حيث يشعر الطفل أنه مسموع، ومُصدّق، وأن الحديث عمّا يُزعجه ليس جريمة. التوعية لا تتطلب دروسًا مطوّلة، بل مواقف يومية، ورسائل واضحة، ونمط تواصل يحترم ذكاء الطفل ولا يستخفّ بخوفه.
في النهاية، لا نبالغ إن قلنا إن الحماية تبدأ بكلمة. كلمة تقول للطفل: «جسدك لك، ومن حقك أن ترفض، أن تسأل، أن تخبر، وأن تُصدَّق». تلك الكلمة وحدها قد تكون الفارق بين جرح لا يُشفى، وطفولة تنجو.
الإطار القانوني: ماذا يقول قانون التحرش الجنسي في لبنان؟
في لبنان، يُعالج القانون الرقم 205/2020 مسألة التحرش الجنسي، ويضع تعريفًا واضحًا وموسعًا لهذه الجريمة. وبحسب الفقرة الأولى من المادة الأولى من القانون، يُعدّ تحرشًا جنسيًا: «أي سلوك سيّئ، متكرر، خارج عن المألوف، غير مرغوب فيه من الضحية، وله مدلول جنسي، ويشكّل انتهاكًا للجسد أو للخصوصية أو للمشاعر، ويمكن أن يقع في أي مكان، وبأي وسيلة، بما فيها الوسائل الإلكترونية».
يُضيف القانون في الفقرة الثانية من المادة نفسها، أن التحرش لا يُشترط أن يكون متكررًا دائمًا، بل يمكن أن يكون فعلًا غير متكرر إذا ترافق مع ضغط نفسي أو معنوي أو مادي أو عنصري، بهدف تحقيق منفعة جنسية يستفيد منها الفاعل أو غيره.
مع أهمية هذا الإطار القانوني، يبرز تحدٍ في التطبيق العملي، إذ إن استخدام مصطلحات مثل «سلوك سيئ» قد يفتح المجال لتفسيرات مختلفة تبعًا للبيئة الاجتماعية والثقافية. وبالتالي، فإن فاعلية القانون تعتمد بشكل كبير على وعي الجهات القضائية وعلى وضوح الأدلة وحسن تفسير النص القانوني.
"إذا كنا حقًا نحب أطفالنا، فعلينا أن نضمن لهم استراحة من الهواتف المحمولة في المدرسة"..
بعض التلاميذ لا يعرفون أنهم يتعرضون لتنمر، ويشعرون فقط بالحزن والقلق .
تحصد مقاطع فيديو لفتيات يجعلن أنفسهنّ يتقيأن ملايين المشاهدات، رغم أنهنّ يُعرِّضن أنفسهن لخطر السكتة القلبية
2025 © جميع الحقوق محفوظة لموقع أمان الأطفال