تخضع صدقية المعلومات، في عصرنا الرقمي، إلى تدقيق لم يسبق له مثيل، تدقيق حتى الجيوش لم تسلم منه، مع استمرار حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة المحاصر. لقد وجدت قوات الاحتلال اليائسة نفسها محط سخرية قبائل الإنترنت بسبب المعلومات المضلّلة التي تواظب على نشرها. دحض الجمهور المتسلّح بأدوات تدقيق من عصرنا الحديث ادعاءاتها وبات كشف الفبركات أشبه بسباق بين المستخدمين. هنا برز المحتوى الساخر، ليس فقط كوسيلة لانتقاد المعلومات المضلّلة، لكن أيضًا لإشراك جمهور أوسع. لقد وجد الجيش الذي كان قادرًا على التحكم بخطابه وسرديّته ذات يوم، في مواجهة معارضة رقمية هائلة.
تطوّرت الـ «ميمز» من الفكاهة على الإنترنت لتصبح سلاحًا فعّالًا في عالم السياسة، وخصوصًا للتواصل مع الأجيال الشابة. صارت أداة للتواصل ووسيلة للتأثير على الرأي العام. في عصرنا الرقمي، يتشكَّل الخطاب السياسي عبر إنشاء ونشر الـ «ميمز»، ما يسمح في اختصار القضايا المعقّدة في صورة واحدة أو مقطع فيديو مقتضب وقابل للمشاركة. تؤمّن الـ «ميمز» وسيلة للأفراد للتعبير عن معتقداتهم السياسية بطريقة جذابة ومثيرة ومضحكة.
إضافة إلى ذلك، تقدّم طريقة مرحة، لكن مؤثرة، لتحدّي وتقويض السرديات المعارضة. عندما يتحوّل موضوع ما إلى «ميم»، فهذا يدل على تحوّل ثقافي لدى فئة كبيرة من الناس، وعلى أنّ الموضوع اكتسب زخمًا ومستوى من الاعتراف والارتباط الذي يتجاوز الخطاب التقليدي. وهذا يعني أيضًا أنّ الـ «ميم» لم يدخل الوعي الجماعي فقط، بل أصبح أيضًا رمزًا مشتركًا، يمكّن الناس من التفاعل مع الموضوع والتعليق عليه بطريقة يسهل الوصول إليها. باختصار، الـ «ميمز» طريقة بالغة الأهمية والتأثير، تسمح باختصار موضوع خطاب ما في صورة مثلًا. وعندما يحصل ذلك، يعني أنّ القضية أو الموضوع الذي تتمحور حوله انتشر على نحوٍ واسع بين المستخدمين.
مع خسارة قوات الاحتلال الإسرائيلي معركة الرأي العام بعد أسبوعين من عملية «طوفان الأقصى»، وتحوّل المزاج الغربي من مُردِّد لعبارة «يحق لإسرائيل أن تدافع عن نفسها» إلى مطالبات فورية بوقف حرب الإبادة والتطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني، تبدلت كذلك صورة العدو في مخيلة الغرب واستحالت فيديوهاته المفبركة بسيناريوات ركيكة أفلامًا محروقة تُعرّى في دقائق من نشرها.
ولنا أن نتخيل أنّ شخصًا مثل "أفيخاي أدرعي"، صارت منصة X (تويتر سابقًا) تضع نصًا تحت منشوراته يكذّب محتواها، آخرها فيديو عن «اكتشاف» الاحتلال نفقًا وتصويره على أساس أنّه في غزة، ليتبين أنّه في السويد. تفاعل جمهور الإنترنت الغربي أيضًا مع مقاتلي «حماس» لكن بشكل إيجابي. يشاهدون فيديوات التحام المقاوم مع العدو، وكيف يقترب من مسافة صفر من دبابة «ميركافا» ويثبّت عبوة العمل الفدائي عليها فتصبح كتلة من الصفيح الذائب والمدمر.
شاهدوا هذه اللقطات مثلنا، لكن أعينهم التقطت أمورًا لافتة شاركوها على السوشال ميديا.
سنوضح هنا كيف راكمت فيديوات المقاومة الفلسطينية وعيًا مختلفًا في عقول الجمهور الغربي. على سبيل المثال، عندما نشرت المقاومة الفلسطينية فيديو عبوة العمل الفدائي، لاحظ الجمهور الغربي أنّ المقاومين يرتدون ملابس رياضية من «أديداس» لا بزات عسكرية، وهو أمر تكرّر في غالبية فيديوات العمليات ضدّ الاحتلال. هكذا، ظهرت عبارات مضحكة على منصات التواصل، حول ارتباط نجاح المهمة بارتداء ثياب من «أديداس».
وبعد أيام من تكرار الاحتلال لفكرة أنّ قيادة حركة «حماس» تتمركز تحت «مجمّع الشفاء الطبي» في غزة داخل شبكة معقدة من الأنفاق، وأنّ تحت المستشفى يوجد «القلب النابض» لحركة "حماس"، نشرت قوّاته فيديو من المكان بعد اقتحامه يظهر حقيبة موضوعة خلف جهاز رنين مغناطيسي تحتوي أسلحة ومعدات أخرى. وكشف أيضًا عن بزّة عسكرية زعم أنّها لمقاتل من «حماس»، مع عصبة رأس كُتبت عليها عبارة «كتائب القسام»، إضافة إلى مجموعة من رشاشات كلاشنيكوف وطلقات نارية ولابتوب وعلبة أقراص مدمجة وكاميرا تسجيل تتدلى من سقف عليه شريط لاصق. مع نشر قوات الاحتلال للفيديو، عمّت السخرية عالم الأصفار والآحاد. انتشرت سريعًا منشورات تدحض المحتوى كلّه بالتفصيل.
كما انتشرت «ميمز» ساخرة ومؤثرة بشكل بالغ الأهمية، كانت أبرزها عبارة No Adidas No Khamas (لا أديداس لا حماس). هنا، أتت الـ «ميم» المضحكة بالغة التأثير لناحية زيف الادعاءات الصهيونية ومضمون الفيديو، غامزةً من ناحية احتمال تلفيق «الأدلة». كما أنّ كتابة «خماس» ليست تفصيلًا، بل تنمّ عن تهكّم على كيفية لفظ اسم الحركة بالعبرية على لسان الجنود الإسرائيليين. أكثر من ذلك، من المعروف أنّ أجهزة الرنين المغناطيسي تحتوي على مغناطيس بالغ القوّة، ولا يمكن وضع عناصر معدنية بالقرب منها، أي إنّ موضوع حقيبة السلاح خلف الجهاز غير منطقي.
راكمت فيديوات المقاومة وعيًا مختلفًا في عقل الجمهور الغربي
في هذا السياق، انتشرت «ميمز» لأجهزة رنين مغناطيسي تبتلع سلّمًا حديديًا وأمورًا أخرى بسبب قوّة المغناطيس فيها. أمر آخر دُحض على هيئة «ميم»، تمثّل في الإيحاء الصهيوني بأنّ أي مكان يوجد فيه لابتوب وبالقرب منه علبة أقراص مدمجة يعني أنّه «مقرّ رئيسي لمنظمة إرهابية». وكان لافتًا أيضًا ما قاله مراسل «الجزيرة»، الياس كرّام، عن الفيديو الإسرائيلي. إذ تنبّه إلى أنّ الجندي الإسرائيلي الذي تحدث فيه، قال إنّه «دخلنا الغرفة وفتشنا الحقيبة مباشرة». وأشار كرّام إلى أنّه في علم التحقيقات والعسكر، لا يتم أبدًا فتح حقيبة مجهولة المصدر من دون وصول فريق متفجرات أو روبوتات لفحصها، ما يستغرق وقتًا، وهو أمر مريب يشير إلى ضعف الرواية الإسرائيلية.
في السياق نفسه، تحوّل المتحدّث باسم «جيش» الاحتلال، دانيال هغاري، إلى مادة لصناعة الـ «ميمز». انتشرت صورة له مقتطعة من الفيديو الذي نشره، وهو يتجوّل حول مبنى «مستشفى الرنتيسي»، محاولًا بكل جهد إقناعنا بأنّ حركة «حماس» استخدمته لأسر إسرائيليين بعد عملية «طوفان الأقصى». صار هغاري نفسه نموذجًا (template) لصناعة «ميم» تدل على عدم وجود شيء في الخلفية التي يُشير إليها بإصبعه، أي إنّه عند مشاهدة الجمهور «ميم» عن هغاري، صار يضحك لأنّ الأمر الذي يشير إليه في الصورة غير موجود. هذه قوة الـ «ميمز» التي باتت تؤكّد أن الجمهور يعي أنّ كلّ ما تنشره قوات الاحتلال لا يعدو كونه محاولات كذب يتسلى بها شعب الإنترنت.
تقرير "حملة" يعطي فكرةً عمّا يجري خلف الأبواب المغلقة لكبريات الشركات، والتضييق والقمع الذي يتعرض لها الموظفون المناصرون لفلسطين
تمكنت الطفلة ريناد عطالله، من خرق هذا التعتيم، ببسمتها العريضة وعبارتها «حان وقت الحقيقة»
اعتمد الباحثون على 700 قطعة من الحمض النووي كمكونات بناء فريدة في نظام تخزينهم الجديد.
2024 © جميع الحقوق محفوظة لموقع أمان الأطفال