التربية بالعنف!

هل العقوبات البدنية مفيدة للأبناء بأي شكل؟

بعض الدراسات تقول إن نحو 65% من المراهقين بين 13-17 سنة يتعرّضون للعقاب البدني بغرض التأديب، بشكل أساسي في المنزل ثم المدرسة. لكن بعيدا عن الإحصاءات والأشكال البيانية، ما السبب الرئيسي الذي يمكن أن يدفع الأب أو الأم إلى اللجوء إلى العقاب البدني لأبنائهم؟

يتعلَّق الأمر بما يفهمه الأب والأم عن العقاب البدني، فبحسب دراسة صدرت قبل عدة أعوام من جامعة كوينزلاند الأسترالية في دورية "بيرسوناليتي آند اندفيدوال ديفرانسيز"، كانت هناك عدة أخطاء أساسية شائعة في الفهم هي السبب في إيقاع العقاب البدني على الأطفال، على سبيل المثال يعتقد معظم الآباء أن العقاب البدني لتأديب طفل لا يُسبِّب ضررا له، سواء كان هذا العقاب بشكل مستمر، أو حتى لو كان بشكل متقطع (وهو الرأي الأكثر شيوعا)، لكن الأسوأ من ذلك هو الاعتقادات عن دور الضرب.

على سبيل المثال، يعتقد معظم الآباء أن العقاب البدني يُعلِّم الطفل المسؤولية ويساعد في تطوير شخصيته أو أنه يُعلِّمه احترام الآخرين، من جانب آخر هناك اعتقاد شائع أن العقاب الجسدي أفضل من أساليب التأديب الأخرى لأنه الشيء الوحيد الذي يفهمه الأطفال، وبالتالي فبدون استخدام العقاب البدني لتأديب الأطفال يصبحون مدللين وجامحين، ويمتد ذلك الى اعتقاد آخر شهير يقول إنه -بناء على ما سبق- يجب استخدام العقاب البدني لتأديب الطفل في كل مرة يُسيء التصرف فيها.

حينما تُوقع عقاباً بدنياً على ابنك أو ابنتك فإن الاستجابة قد تكون بالفعل سريعة، الرسالة ستكون واضحة، وهذا هو بالأساس ما يُغري أولياء الأمور باستخدام العنف، ببساطة لأنه أسهل الطرق من وجهة نظرهم لتوصيل المعلومة، لكن العقاب الجسدي دائما ما سيتصاعد مع الزمن، حيث لا يمكن أبداً للمستوى نفسه من الضرب أن يحافظ على المستوى نفسه من الإذعان مع التكرار، بالتالي يضطر الأب أن يستخدم آليات وتنويعات للضرب أكثر شدة من ذي قبل، الأمر الذي يتطوّر في الكثير من الحالات لأضرار جسدية وليست نفسية فقط، ويمكن أن نلاحظ ذلك بوضوح في استجوابات جرائم العنف المنزلي ضد الأطفال في الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال، فقد بدأ ثُلثاها بوصفه محاولةً لتصحيح سلوك الطفل عبر الضرب البسيط، ثم تطوَّر الأمر.

من جانب آخر، فإن العقاب البدني بالضرورة يحتوي على عنصر من الغضب، وهذا الأمر لا يمكن للشخص التحكُّم به مما يُخرجه عن السيطرة، وعادة ما تكون حوادث العنف المنزلي مرتبطة ببداية بسيطة، لكن في أثناء عملية العقاب يحدث شيء، مجرد كلمة أو حركة ما، تُشعل غضب الأب فيَصبُّه بالتبعية في صورة ضرب مبرح على الابن الضعيف الواقع قبالة عينيه.

بداية من تسعينيات القرن الفائت بدأت الأدلة البحثية تتجمّع لتُشير إلى أن الضرب يُؤتي ثمارا تقع على النقيض تماما مما يمكن أن تتوقّع منه، حيث يتصوَّر الأب أو الأم أن ذلك سيُخضع الابن ويجعله أكثر هدوءا، لكن تبيَّن أن الضرب يساعد على تطوير سلوك مستقبلي عنيف، وربما مُعادٍ للمجتمع، لدى الأطفال. كما أنه يُخفِّض من هيبة الآباء في عيون أطفالهم حينما يصلون إلى المراهقة وما يتلوها من مراحل، نتحدث هنا عن دراسات ضخمة فحصت عشرات إلى مئات الآلاف من الحالات.

لكن الأكثر دعوة للتأمل كان دراسة صدرت قبل نحو عامين من جامعة ماكجيل الكندية، أشارت بعد فحص 88 دولة حول العالم إلى أنه في الدول التي تُجرِّم العقاب الجسدي في المنزل أو المدرسة كانت نِسَب العنف بها أقل بنسبة 31% بين الشباب و42% بين الشابات، مقارنة بتلك التي يُسمَح فيها بالعقاب البدني، أما في البلدان التي كان فيها حظر جزئي -في المدرسة فقط- للعقاب البدني، فكان مستوى العنف لدى الشباب مماثلا لذلك الموجود في البلدان التي لا يوجد فيها تجريم للعقاب البدني.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد ربطت مجموعات أخرى من الدراسات بين استمرار العقاب البدني بوصفه آلية تربية واحتمالية الإصابة مستقبلا بالأمراض النفسية وإدمان الكحول والمواد المخدرة، خاصة بين المجموعات التي تحمل صفات جينية تجعلها أكثر ميلا للإصابة بالاضطراب النفسي، في تلك النقطة دعنا نتأمل قليلا فكرة مثيرة للانتباه، فنحن نعرف أنه بجانب الرغبة في التأديب، يميل الآباء المصابون بالاضطرابات النفسية، خاصة الاكتئاب، إلى استخدام العقاب الجسدي مع أبنائهم، وبما أن الأبناء وراثيا مُعرَّضون للإصابة بالمرض نفسه، فإن كل الطرق ستؤدي إلى الإصابة به.

أضف إلى ذلك أن هناك ارتباطا واضحا بين استخدام العقاب البدني وتعرُّض الأب أو الأم لصدمات نفسية مُتعلِّقة بعقاب بدني بينما كانوا أطفالا، لكن ذلك بدوره يقودنا لفكرة أكثر عُمقا عن العلاقة بين الثنائي الأسود: العقاب البدني والفقر، فنحن نعرف أن الفقراء أكثر ميلا لمواجهة مشكلات نفسية من غيرهم، وكانت دراسة من جامعة ميتشجن قد وجدت أنه في البلاد النامية تحديدا فإن العقاب البدني قد يُفاقم المشكلات النفسية للأبناء.

من جانب آخر، فإن دراسة صادرة من جامعة بنسلفانيا الأميركية مؤخرا قد أشارت إلى أن تأثُّر المستوى التعليمي للطفل سلبا بسبب العقاب البدني لا يتعلَّق فقط بالضرب المبرح، ولكن أيضا بكل صور الضرب ودرجات شدته، ويمتد الأمر وصولا إلى التأثير السلبي للعنف اللفظي، وهو أمر تُجمِع عليه الكثير من الدراسات في هذا النطاق.

إن استمرّ الحديث عن أضرار الضرب فربما لا نتوقف قبل أن نملأ كتابا، لكن دعنا نتأمل دراسة صدرت عام 2014 في دورية "تشايلد أبيوز آند نيجليكت"، وتمت على نحو خمسمئة فرد، أشارت إلى أن نِسَبا تتراوح بين 50-75% من المتطوعين للتجارب قد غيَّروا رأيهم في العقاب البدني بعد قراءة بعض الملخصات البحثية التي تُشير إلى أنه ليس مفيدا على عكس الظن الشائع، وقد بيَّنت الدراسة أنه في الغالب فإن المشكلة تتعلَّق بتصوُّرات الأهل حول فوائد الضرب، التصوُّرات التي تتغيّر ما إن يكتشفوا الحقيقة.

ولذلك تقترح الدراسة أن تقوم الحكومات بمبادرات واسعة تُعلِّم الناس أضرار العقاب البدني. حينما تُنجب طفلك الأول، فإنك تتعلم كيف تقوم بتربيته من خلال ما تظن أنه كان السبب في استقامتك أثناء تربية أبويك لك، وكذلك ستسأل المحيطين بك (أصدقاء وآباء وإخوة) عن كيفية التعامل، ونادرا ما يلجأ أحدهم في أمور كالتأديب أو تعليم الطفل الانضباط إلى مختص نفسي، ولأن الكثير من المجتمعات تقع في مجموعة كبيرة من الأخطاء في الفهم عن العقاب البدني، فإن الدائرة تستمر ولا تتوقف، من جد إلى أب إلى طفل، إلخ.

لكننا الآن نعرف أن هذا الأسلوب غير فعّال لسبب واحد، وهو أن امتناع الابن عن سلوك سيئ لا يمكن أبدا أن يحدث لأنه أُجبِر على ذلك في سياق علاقة سلبية بينه وبين أبويه، بل في سياق يفترض وجود شرط واحد فقط وهو شعوره بالحب والأمان، أو وجود علاقة تشجيعية إيجابية بين الآباء والأبناء في العموم، ولا يمكن للضرب -بأي حال- أن يُمثِّل فرصة لإظهار المحبة لطفل صغير أو مراهق أو حتى شاب كبير، لأن فيسيولوجيا جسمه ودماغه لن تقبل تلك الحجة مهما حصل.

بعد ذلك يأتي دور التعزيز الإيجابي والسلبي، وهي آليات تتضمّن مكافآت على السلوكيات الطيبة والحرمان من الامتيازات نتيجة للسلوكيات السلبية، بشرط أن يكون الحرمان مرتبطا بنتائج للسلوك نفسه، لكنك لو تأملت قليلا وتعلَّمت عن هذه الآليات لوجدت أنها تحتاج إلى شيئين أساسيين، الأول هو الانتباه لحياة الطفل، ورغباته، وآرائه في القضية موضع النقاش، فهو ليس مجرد لعبة خشبية يجب أن تتحرك في أي اتجاه تضعها، والثاني هو أن الأمر سيحتاج إلى الكثير من الوقت.

حسنا، هكذا هي التربية يا صديق، إذا أردت أن تُحضر طفلا للعالم فيجب أن تتعلَّم أنه عليك بذل الكثير من الجهد لإنشاء علاقة قوية معه تسمح مستقبلا بأن ينشأ بينكما نقاش -على الأقل- مقبول، إن أشهر الحجج التي يقولها الآباء بعد ضرب أبنائهم هي: "أنا أضربك لأجل مصلحتك"، لكنك في الحقيقة لا تفعل ذلك لمصلحته، بل تقول هذا الكلام بدلا من قول الحقيقة الواضحة، الحقيقة التي وجب أن تنص على: "أنا ضعيف، وكسول للغاية، إلى درجة أنني أستسهل وأقوم بضربك بدلا من البحث عن طريقة أفضل لتربيتك ستتطلّب مني الكثير من الجهد والانتباه لك، طريقة كان يمكن أن تساعدك مستقبلا"!

 

 


المصدر: موقع "الجزيرة نت"

مواضيع مرتبطة

تحذيرات من استغلال المتحرشين للأطفال بتقنيات الذكاء الاصطناعي

2401 صورة لمواد اعتداء جنسي على الأطفال منتجة عبر تطبيق برنامج تعرية الصور تُرسل لأصحابها كي يبتزّوهم بها..

الأمان الرقمي للأسرة: كيفية إنشاء خطة عائلية للتعامل مع حوادث أمن المعلومات

أمن المعلومات يعني حماية المعلومات من الوصول غير المصرح به، والاستخدام والكشف والتعديل والتدمير

"نيرة" طالبة العريش.. قتيلة "ذئاب" الابتزاز الإلكتروني

الطالبة المصرية خانتها أقرب صديقاتها عندما نقلت خلسة من هاتف "نيرة" الضحية محادثات إلى شاب معهما في الجامعة، حيث بدأت عملية الابتزاز..بعد أيام وجدوها ميتة..!

كلمات مفتاحية

ارشادات_أُسرية